موضوع: السلوك الاقتصادي للنبي صلى الله عليه وسلم الخميس 24 يونيو - 6:05:59
السلوك الاقتصادي للنبي صلى الله عليه وسلم
أهم الإصلاحات الاقتصادية التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم
بعث النبي صلى الله عليه وسلم والناس في جاهلية وفوضى في كل شيء، فعمل صلى الله عليه وسلم جاهدا على سد المنافذ على الفساد في المعاملات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وقد وجد بعض الفقهاء ومن خلال استقراء النصوص الشرعية، أن أسباب الفساد عامة، وفي المعاملات بشكل خاص، تنحصر في أربعة أمور هي الربا والغرر والشروط الفاسدة التي ترجع إليهما والسلع والأنشطة المحرمة، وقد تشدد النبي صلى الله عليه وسلم في تطبيق إصلاحاته الاقتصادية بمنع واجتثاث هذه الأمور الأربعة، من خلال النهي والوعيد والترغيب والترهيب واتباع كافة الأساليب التي تراعي خصائص النفس الإنسانية، ويمكن بيان ذلك كما يلي:
أولا: تحريم الربا:
وردت في السنة النبوية أحاديث كثيرة تنهى عن الربا، وتنذر باللعن والطرد من رحمة الله لآكلي الربا، ومن هذه الأحاديث:
عن جابر قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء. .
بل إن بعض الأحاديث جعلت مقترف الربا كمن يقترف الفاحشة بأمه.
جاء في مصنف ابن أبي شيبة "عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الربا سبعون حوبا أيسرها نكاح الرجل أمه وأربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه".
هذا هو مصير المرابين في الدنيا، ذل وخزي وعار أبد الدهر، أما مصيرهم يوم القيامة:
فقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، حيث رأى رجلا يسبح في بركة من دم وكلما أراد الخروج من البركة ألقم بالحجارة، فسأل النبي من هذا يا أخي يا جبريل، قال: آكل الربا.
جاء في فتح الباري لابن حجر العسقلاني: قال ابن هبيرة: إنما عوقب آكل الربا بسباحته في النهر الأحمر وإلقامه الحجارة لأن أصل الربا يجري في الذهب والذهب أحمر وأما إلقام الملك له الحجر فإنه إشارة إلى أنه لا يغني عنه شيئا وكذلك الربا فإن صاحبه يتخيل أن ماله يزداد والله من وراءه يمحقه .
إن الجزاء في الآخرة يكون من جنس العمل في الدنيا، فهؤلاء المرابون هم أشبه بمصاصي الدماء، يمتصون جهود الناس وعرقهم ودماءهم، ويستغلون ضعفهم، ويعملون على مضاعفة الأسعار باستمرار، وبالتالي فإن الجزاء المناسب لأكلة الربا، هو أن يكونوا في برك من دماء ضحاياهم لا يستطيعون الخروج منها، كما كانوا يحيطون بضحاياهم في الدنيا، ولا يسمحون لهم بالخلاص.
إن الدماء مكانها الطبيعي داخل الجسم، تجري في الشرايين والأوردة لتنقل الأكسجين والمواد المغذية لكافة أعضاء الجسم، أما إذا كانت الدماء خارج الجسم فإنها دماء نجسة ملوثة فاسدة لا يصح الاقتراب منها، وبالتالي كانت هي الموضع المناسب لأكلة الربا لأنها تتناسب مع نجاسة عقولهم التي تربت على الجشع والاستغلال والبشاعة.
ونظرا لهذه الخطورة البالغة، وتأكيدا وحرصا على سلامة التطبيق كان تأكيده صلى الله عليه وسلم على وضع ربا الجاهلية كله، وبدأ بأقرب الناس إليه وهو عمه العباس فقال صلى الله عليه وسلم: "..وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب"
ثانيا: تحريم الغرر:
الغرر في اللغة من الخطر ويأتي بمعنى الشك أو الخداع أو الجهالة، وهو في اصطلاح الفقهاء مستمد من الأصل اللغوي، ويعرفونه تارة بأنه ما كان مستور العاقبة، مثل بيع السمك في الماء أو الطائر في الهواء، وتارة أخرى بأنه ما كان ظاهره يغري المشتري وباطنه مجهول، وفي تعريف ثالث هو ما تردد بين شيئين.
ولعل تعريف السرخسي في المبسوط للغرر بأنه ما يكون مستور العاقبة ، يجمع بين التعريفات السابقة.
وقد ورد عن عدد من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الغرر". رواه مسلم في صحيحه.
ويستفاد من الحديث تحريم بيع الغرر، وفساد عقد بيع الغرر، بمعنى عدم ترتب أي أثر عليه على رأي جماهير العلماء.
وليس هناك من شك في أن الغرر الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم كان واضحا جليا في مجتمع الرسالة، وقد مثل الفقهاء له بأمثلة عديدة بعضها كان منتشرا لدى العرب في الجاهلية، وبعضها ربما كان وليد عصور لاحقة.. وقد بالغ بعض الفقهاء في إدخال صور عديدة من البيوع ضمن بيوع الغرر، ورعا منهم وحرصا على تجنب الحرام، ونعرض فيما يلي لأشهر الأمثلة القديمة التي ذكرها الفقهاء ضمن بيوع الغرر المحرمة :
- بيع الحصاة: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة ، ويكون بقذف الحصاة فما وصلت إليه من مسافة كان منتهى مساحة الأرض المباعة أو ما وقعت عليه من سلع كان هو المبيع.
- بيع المنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الآخر الثوب دون نظر أو تأمل، ويجب على المشتري قبوله. "عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسة والمنابذة".
- بيع الملامسة: بأن يتساوم الرجلان في سلعة، فإذا لمسها المشتري لزم البيع.
- بيع النتاج: وهو العقد على نتاج الماشية، ومنه بيع ما في ضروعها من لبن دون أن تعرف كميته أو بيع ما في بطونها من أجنة أو ما في أصلاب الفحول.
- بيع حبل الحبلة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة"، وهو بيع نتاج النتاج، بأن تلد الناقة ما في بطنها ثم تحمل الوليدة.
- المحاقلة: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المخابرة، والمحاقلة، وعن المزابنة" وهو بيع البر في سنابله أو بيع الزرع بحب من جنسه.
- المزابنة: بيع الثمر بالتمر، والكرم بالزبيب والزرع بالطعام كيلا.
- بيعتان في بيعة: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة"، وذلك بأن يبيع السلعة بمئة نقدا وبمئة وعشرة إلى أجل ويقبل المشتري دون أن يحدد أحدهما أو أن يبيعه دارا على أن يشتري منه بستانا، وعند ابن القيم أن النهي عن بيعتين في بيعة مماثل لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع العينة، فهو أن يبيعه السلعة بمئة إلى أجل ثم يشتريها منه بثمانين حالة، قال ابن القيم وهذا هو المعنى الذي لا يصح سواه
ويدخل الغرر في وقتنا الحاضر في الكثير من الصيغ والعقود الحديثة كعقد التأمين التجاري والعقود الآجلة والمستقبليات والخيارات.. الخ، على خلاف بين العلماء المعاصرين.
ثالثا: الشروط الفاسدة:
وترجع هذه الشروط في الجملة إلى الربا والغرر وما ينجم عنهما من ظلم وفساد واستغلال وما يترتب عليها من خصومة ونزاع ثم تفكك وانقسام يقود إلى ضعف وهوان، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على استئصال الربا والغرر وكل ما يمكن أن يؤدي إليهما من شروط، قال صلى الله عليه وسلم: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما، والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما".
فهذا الحديث يشير بوضوح إلى أن الأصل في العقود والشروط الصحة والمشروعية، إلا ما كان منها يحل حراما أو يحرم حلالا، ويفهم منه أن النظام الاقتصادي الإسلامي لديه القابلية لمواكبة كافة التطورات والمستجدات العصرية في العقود والصيغ والمعاملات، ما دامت لا تحل حراما أو تحرم حلالا.
رابعا: إهدار قيم السلع والأنشطة المحرمة:
إن المحرمات والخبائث لا اعتبار لها شرعا في الإسلام، ويطلق عليها الأموال غير المتقومة، لأن قيمتها مهدرة شرعا.
وبناء على ذلك فإن الناتج القومي الإجمالي من منظور إسلامي سوف يختلف عنه من منظور الاقتصاد الوضعي، حيث يتم حذف كل السلع والخدمات والأنشطة المحرمة في الناتج القومي الإجمالي الإسلامي.
ومن هنا فإن هدر المحرمات من خمر وخنزير وميتة ودم ونجاسات وأنشطة وخدمات محرمة، وإن كان قد يلحق الضرر المادي بالبعض فإنه سوف يكسب المجتمع وفرا كبيرا.. فالميتة من الضأن والإبل على سبيل المثال قد يخسرها صاحبها، ولكن في هدرها نجاة للمجتمع من الأمراض والأوبئة التي قد تنجم عن طبخها وتناولها.. وكذلك الدم والخنزير والخمر وسائر النجاسات والمحرمات..
ومن جهة أخرى فإن استبعاد هذه المحرمات المستقذرات من المجتمع سوف يكسب المجتمع صحة وعافية ونشاطا وقوة ويزيد في إنتاجيته وعطائه وتقدمه ماديا ومعنويا.
خامسا: تحديد الأوزان والمكاييل:
أقر النبي صلى الله عليه وسلم النقود الرومية والفارسية التي كانت مستخدمة عند العرب، وتعامل بها بالرغم مما وجد عليها من صور ونقوش تخالف عقيدة التوحيد، ولا يعني ذلك إقرارا لما جاء عليها من مخالفات، وإنما كان التعامل بها اضطرارا، ونظرا لأن النقود السائدة كانت مضطربة الأوزان والأشكال والمقادير فقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم وزنا واحدا لكي يتعامل به الناس، وشكلا واحدا، وهو وزن أهل مكة، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "الوزن وزن أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة" . وتعتبر هذه الخطوة من جانب الرسول صلى الله عليه وسلم أول محاولة للتوحيد النقدي، وذلك من خلال توحيد أوزانها، فهذه الخطوة أشبه بإيجاد عملة حسابية، وبذلك استقر الأمر في الإسلام على أوزان شرعية محددة، وأجمع المسلمون على ثبوت هذه الأوزان وتحديد الفروض الشرعية من خلال هذه الأوزان، وكذلك الأمر بالنسبة للمكاييل التي كانت سائدة، فقد ألغيت جميعها باستثناء مكيال أهل المدينة.