نشأة النبي صلى الله عليه وسلم
ولد رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم في أشرف بيت من بيوت العرب، وفي هذا يقول كما في حديث مسلم:
ولد رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم في أشرف بيت من بيوت العرب، وفي هذا يقول كما في حديث مسلم: " إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم " ولمكانة هذا النسب الكريم لم تستطيع قريش أن تطعن على النبي صلى الله عليه وسلم من خلاله، بل وق أبو سفيان وهو يومئذ أشد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم أمام هرقل وقد سأله عن نسب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هو فينا ذو نسب.
كما اقتضت حكمة الله تعالى أن ينشأ النبي صلى الله عليه وسلم يتيماً، فلم ير أباه، وسرعان ما لحقت به أمه في السادسة من العمر ثم جده في الثامنة، وهكذا نشأ بعيداً عن رعاية والديه، محروماً من عاطفتهما، لكن تولته عناية الله وحده، وكفى بالله وكيلاً ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ﴾ [الضحى:6] ولعل في يتمه صلى الله عليه وسلم أسوة للأيتام في كل زمان ومكان، إذ لو كان اليتيم شيئاً لما اختاره الله لنبيه وصفوته من خلقه صلى الله عليه وسلم.
وقد أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السنوات الأربع الأولى من طفولته في البداية في بني سعد، على عادة العرب من أهل الحضر الذين كانوا يسترضعون أبنائهم في البدو بعيداً عن تدليل الأمهات والجدات، فنشأ قوى البنية، سليم الحس، فصيح اللسان، جريء الجنان، يحسن ركوب الخيل على صغر سنه، قد تفتحت مواهبه على صفاء الصحراء وهدوئها وإشراق شمسها، ونقاوة هوائها.
وفي أثناء وجود بني سعد بن بكر ظهرت إرهاصات النبوة ودلائل اختيار الله له، وتهيئته للعصمة والوحي، وقد روى مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فأستخرجه فأستخرج منه علقه فقال: هذا حظ الشيطان منك! ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم اعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني مرضعته - أن محمداً قد قتل! فاستقبلوه وهو منتقع اللون " قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره" ولا شك أن التطهير من حظ الشيطان، إرهاص مبكر للنبوة، وإعداد للعصمة من الشر، وعبادة غير الله، فلا يحل في قلبه شيء إلا التوحيد الخالص، وقد دلت أحداث صباه على تحقق ذلك،فام يرتكب إثماً، ولم يسجد لصنم، رغم شيوع ذلك في قومه.
وقد تكرر شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى ليلة الإسراء والمعراج تمهيداً لرقيه صلى الله عليه وسلم إلى حيث شاء الله من العلا، ولا شك أن جميع ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأمور الخارقة للعادة كشق الصدر ونحو ذلك مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته، لأن قدرة الله صالحة لذلك وغيره، فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأما المستشرقون ومن تأثر بهم من المسلمين من أصحاب المدرسة العقلية الذين يقدمون العقل على النقل، ويحسنون الظن بآرائهم وعقولهم رغم تفاوتها واختلافها، ويسيئون الظن بالوحي رغم ثبوته وصدقه وأن لم تبلغه عقولهم الشوهاء، فإن هؤلاء يكذبون بمثل هذه المعجزات الحسية كشق الصدر وغيره مما تكرر عشرات المرات من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم ويقولون أنها أساطير، أو أمور معنوية على أحسن تقدير ! والعجب من هؤلاء لو قيل لهم إن طبيباً ألمانياً أو أمريكيا يشق صدر المريض ويعالجه بجراحة ناجحة لبادروا إلى التصديق ! أفي قلوبهم مرض ؟ أم ارتابوا ؟! وإذا كان اليتم قد ترك في صدر النبي صلى الله عليه وسلم أعمق الأثر خصوصاً وقد أرته الأقدار فقد أحبابه واحداً تلو الآخر وهو بعد في سن الطفولة , إلا أنه ألف تحمل المسئولية منذ صغره , ولم يتخلف عن المشاركة الإيجابية في الحياة, ولعل ضيق حال أبي طالب عمه الذي آلت إليه كفالته جعله يرعى الغنم لأهل مكة على قراريط وكأن الله أراد له أن يتدرب على رعاية البشر , وسياسة أمورهم منذ الصغر , فإنه ما من نبي إلا وقد رعى الغنم , والحكمة في إلهام الأنبياء رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم , ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة , لأنهم إذا صبروا على رعيها ، وجمعها بعد تفرقها في المرعى ونقلها من مسرح إلى مسرح ، ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق ، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها ، مع ضعفها وإحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة ، كما أن في احتراف النبي نبوته صلى الله عليه وسلم لهذه الحرفة في هذه السن المبكرة بيان أهمية احتراف الشباب من سن مبكرة ، وأكلهم من عمل أيديهم كي ينشئوا على حمل المسئولية ، فليس من شأن الرجال أن يقعدوا ! وكما عالج النبي نبوته صلى الله عليه وسلم الرعي في صغره فقد صحب عمه في تجارته في الشام فاستفاد من تجارب السفر، والاحتكاك بالآخرين، والتعرف على أوضاعهم ، كما كان في ذلك مجاملة رقيقة ، ومشاركة لطيفة لعمه الحاني الذي كان له كالأب الشفيق فأراد أن يشعره بحرصه على رفع المعاناة عنه ومعاونته على تحصيل النفقة اللازمة .ورغم إعتزال النبي صلى الله عليه وسلم منذ نشأته لمظاهر الجاهلية المنتشرة في بيئته إلا أن ذلك لم يمنعه من المشاركة في الأمور العامة التي تدعو إلى القيم النبيلة وتترفع عن قبيح الفعال ، لا جرم أنه لا يتردد في حضور حلف المطيبين والذي عرف بحلف الفضول وفيه يقول صلى الله عليه وسلم " لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ، ما أحب أن لي به حمر النعم ! ولو دعيت به في الإسلام لأحببت " وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم مبعوث بمكارم الأخلاق ، وهذا منها وقد اجتمع القوم لإقرار العدل والانتصار للمظلوم، فالقيم الإيجابية تستحق الإشادة بها ولو صدرت من أهل الجاهلية ومن حكم إختيار العرب لحمل رسالة الدعوة موقعهم الجغرافي المتميز بين دول العالم مما يسهل إنطلاق الرسالة إلى جميع الشعوب والدول المحيطة . وقد كان اختيار الله لهذه الأمة ليشرفها بمولد النبي صلى الله عليه وسلم منة عظيمة امتن بها عليهم﴿ لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾[آل عمران:164]
ولم ينسى العرب المسلمون هذه المنة ، بل راحوا يؤكدونها في كل مناسبة كما قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه عند النجاشي : " كنا أهل الجاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسئ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته، وعفافه فدعانا لتوحيد الله، وألا نشرك به شيئاً، ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام. وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة والصيام، وعدد عليه أمور الإسلام ، فقال جعفر : فأمنا به وصدقناه ، وحرمنا ما حرم علينا، وحللنا ما أحل لنا "
لقد حول رسول الله صلى الله عليه وسلم العرب بهذا الدين من رعاة غنم إلى هداة أمم ، فزالت غبرة الجاهلية عن آفاق الجزيرة كما تزول بقايا الليل أمام طلائع الشروق ، وصحت العقول العليلة , فلم تعد ترجو وتخشى إلا الله بعدما ظلت دهوراً تعبد أصناماً جامدة ، وسمع الأذان للصلوات يشق أجواء الفضاء خلال الصحراء التي أحياها الإيمان الجديد .
إن هذه الجزيرة الجديدة منذ نشا فوقها عمران لم تهتز بمثل هذه النهضة المباركة ، ولم يتألق تاريخها تألقه في هذه الأيام الفريدة من عمرها.