شرح حديث (سلوا الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة)
مع المصطفى صلى الله عليه وسلم
سلوا الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة
عن العباس بن عبد المطلب قال : قلت يا رسول الله علمني شيئا أسأله الله , قال : ( سل الله العافية) فمكثت أياما ثم جئت فقلت : يا رسول الله علمني شيئا أسأله الله , فقال لي : ( يا عباس , يا عم رسول الله , سل الله العافية في الدنيا والآخرة ) رواه الترمذي في سننه , كتاب الدعوات رقم 3514 , والشوكاني في الفتح الرباني 11/5516 وقال روي بأسانيد ورجال بعضها رجال الصحيح – غير يزيد بن أبي زياد وهو حسن الحديثلالا والحديث صححه الألباني في صحيح الترمذي والسلسلة الصحيحة 4/29
" لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر " .... بهذه الكلمات الندية الجلية كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يعلن بين صحابة النبي صلى الله عليه وسلم رؤية الإسلام الواضحة تجاه قضية السراء والضراء ..قضية البلاء والابتلاء , ليكشف للدنيا كلها وسطية هذا الدين ومنهجه المتوازن المتناسق في كل أبعاده مع كيان الإنسان ...هذا الإنسان الضعيف الذي قد تخدعه بعض لحظات الصفاء فيتمنى لو طهره الله من الذنوب في الدنيا فيعجل له البلاء والعقوبة , وهيهات أن يكون تمني البلاء مما يرضاه الله ولا رسوله بل باب التوبة والعافية خير وأبقى , هذا فضلا على أن المرء لا يعلم مآل أمره إذا تمنى البلاء هل يصبر أو يضعف , بل إن تمنى البلاء فيه من صورة الإعجاب بالنفس والاتكال على القوة والوثوق بها وترك الاستعانة بالله , فنسأل الله العافية والسلامة التي لا يعدلها شيء
يقول ابن الجوزي : "السعيد من ذل لله وسأل العافية , فإنه لا يوهب العافية على الإطلاق , إذ لابد من بلاء , ولا يزال العاقل يسأل العافية ليتغلب على جمهور أحواله , فيقرب الصبر على يسير البلاء , وفي الجملة ينبغي للإنسان أن يعلم أنه لا سبيل لمحبوباته خالصة , ففي كل جرعة غصص وفي كل لقمة شجأ , وعلى الحقيقة ما الصبر إلا على الأقدار , وقل أن تجري الأقدار إلا على خلاف مراد النفس , فالعاقل من دارى نفسه في الصبر بوعد الأجر , وتسهيل الأمر , ليذهب زمان البلاء سالما من شكوى , ثم يستغيث بالله تعالى سائلا العافية , فأما المتجلد فما عرف الله قط , نعوذ بالله من الجهل به , ونسأله عرفانه إنه كريم مجيب" صيد الخاطر ص 233
قال المباركفوري في شرح الترمذي : في أمره صلى الله عليه وسلم للعباس بالدعاء بالعافية بعد تكرير العباس سؤاله بأن يعلمه شيئا يسأل الله به دليل جلي بأن الدعاء بالعافية لا يساويه شيء من الأدعية ولا يقوم مقامه شيء من الكلام الذي يدعى به ذو الجلال والإكرام , والعافية هي دفاع الله عن العبد , فالداعي بها قد سأل ربه دفاعه عن كل ما ينويه , وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عمه العباس منزلة أبيه ويرى له من الحق ما يرى الولد لوالده ففي تخصيصه بهذا الدعاء وقصره على مجرد الدعاء بالعافية تحريك لهمم الراغبين على ملازمته وأن يجعلوه من أعظم ما يتوسلون به إلى ربهم سبحانه وتعالى ويستدفعون به في كل ما يهمهم , ثم كلمه صلى الله عليه وسلم بقوله "سل الله العافية في الدنيا والآخرة" فكان هذا الدعاء من هذه الحيثية قد صار عدة لدفع كل ضر وجلب كل خير والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري 9/395 بتصرف
وقال الجزري في عدة الحصن الحصين : "لقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم دعاءه بالعافية وورد عنه صلى الله عليه وسلم لفظا ومعنى من نحو من خمسين طريقا" ومن أشهر هذه الأحاديث الصحاح قوله صلى الله عليه وسلم ( ما سئل الله شيئا أحب إليه من أن يسأل العافية ) رواه الترمذي رقم 3515 عن عبد الله بن عمر
وقال صلى الله عليه وسلم ( سلوا الله العفو والعافية فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية) رواه أحمد والترمذي رقم 3558 عن أبي بكر. [صحيح الجامع 3632]
قال المناوي
سلوا اللّه العفو والعافية ) أي واحذروا سؤال البلاء ( فإن أحداً لم يعط بعد اليقين خيراً من العافية ) أفرد العافية بعد جمعها لأن معنى العفو محو الذنب , ومعنى العافية السلامة من الأسقام والبلاء فاستغنى عن ذكر العفو بها لشمولها , ثم إنه جمع بين عافيتي الدنيا والدين لأن صلاح العبد لا يتم في الدارين إلا بالعفو واليقين , فاليقين يدفع عنه عقوبة الآخرة والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا في قلبه وبدنه فيض القدير للمناوي 2/52
وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم ( اللهم أنت خلقت نفسي وأنت توفاها لك مماتها ومحياها إن أحييتها فاحفظها و إن أمتها فاغفر لها اللهم إني أسألك العافية) رواه مسلم عن ابن عمر ,
بل لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح : " اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة ، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللهم استر عورتي وآمن روعاتي ؛ اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي ، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي " رواه أبو داود رقم 5074 عن عبد الله بن عمر ,
وقال صلى الله عليه وسلم في دعائه يوم الطائف ( إن لم يكن بك على غضب فلا أبالى غير أن عافيتك أوسع لي ) فلاذ بعافيته كما استعاذ بها في قوله صلى الله عليه وسلم ( أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك ) رواه أبو داود رقم 879 عن عائشة
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد رجلا قد جهد حتى صار مثل فرخ فقال له : (أما كنت تدعو أما كنت تسأل ربك العافية) , قال : كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا , فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( سبحان الله إنك لا تطيقه أو لا تستطيعه , أفلا كنت تقول اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) رواه الترمذي رقم 3487
وكان عبد الأعلى التيمى يقول : " أكثروا من سؤال الله العافية فإن المبتلى وإن اشتد بلاؤه ليس بأحق بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء , وما المبتلون اليوم إلا من أهل العافية بالأمس , وما المبتلون بعد اليوم إلا من أهل العافية اليوم , ولو كان البلاء يجر إلى خير ما كنا من رجال البلاء , إنه رب بلاء قد أجهد في الدنيا وأخزى في الآخرة , فما يؤمن من أطال المقام على معصية الله أن يكون قد بقى له في بقية عمره من البلاء ما يجهده في الدنيا ويفضحه في الآخرة"
ولما كانت الصحة والعافية من أجل نعم الله على عبده وأجزل عطاياه وأوفر منحه بل العافية المطلقة أجل النعم على الإطلاق , فحقيق لمن رزق حظا من التوفيق مراعاتها وحفظها وحمايتها عما يضادها فعن عبد الله بن محصن الأنصارى رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أصبح معافى في جسده آمنا في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا " رواه الترمذي رقم 2347