كما هو معلوم، أيام قليلة ويطل علينا شهر كريم، فيه أحد أهم العبادات، العمل الصالح فيه له نكهة خاصة، شهر ليله ونهاره فرصة مفتوحة للتقرب لله عز وجل، وهو شهر العمل، وليس شهر النوم والكسل، فيه وقعت معركة بدر الكبرى، وفتح مكة، ومعركة حطين، وقعت عندما كان الناس يعرفون معنى الصيام.
كثيرٌ منا بدء صومه وهو في سن صغير من العمر، تعلمنا حينها أن الصوم هو عدم الأكل والشرب، وكثيراً ما كنا نتفاخر بصيامنا ليوم كامل أمام أصحابنا، حتى لو لم نكررها في اليوم التالي، وللآسف منذ ذلك الوقت، فإن مفهوم الصيام إنحصر في الامتناع عن الطعام والشراب، ولم يستطع كثير منا، إلا من رحم ربي، معرفة المعاني الحقيقية للصوم، لدرجة أن طفلاً لو سألنا لماذا نصوم؟ لأجبناه: لكي نشعر بالفقراء والمساكين. ومن حسن الحظ أن هذا الطفل لا يتبادر لذهنه سؤال من قبيل: ولماذا إذاً الفقراء والمساكين يصومون؟ أو لماذا أيضاً الامتناع عن الماء؟ فهو متوفر في أي جامع مثلاً.
لنتحدث بداية عن ضرورة الاستعداد لهذا الشهر، ولماذا يجب أن يكون ذلك قبل بدءه، فكما تعرفون قصة الصحابي حنظلة الذي أتى رسول الله يبكي ويقول لقد نافقت، وعندما سأله عليه الصلاة والسلام : قال: يا رسول الله! إذا كنا عندك كأننا نرى الجنة والنار رأي العين، فإذا ذهبنا إلى أهلينا وأولادنا وعاشرنا النساء والضياع نسينا. قال: لو تكونون كما كنتم عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات .
أقول هذا حال صحابي بين يدي رسول الله ،فما حالنا نحن؟ لعل قلوبنا دقائق وأيام وليس ساعة فساعة، من أجل هذا لا بد من الاستعداد لمثل هذه المواسم العظيمة، فكيف إذا كان موسم تُعتق فيه الرقاب من النار، ألا يستحق الاستعداد له؟
قد يقول قائل: الشهر 30 يوماً، دعنا ننهي الملذات قبل الانقطاع، وخلال الشهر ندرك الأجر، فأقول وماحال من سيتوفاه الله أول ليلة من الشهر، هل أدرك العتق من النار بقيام أول ليلة فقط، وكان قبل ساعات قليلة يلهو ويتمتع ، ثم علم بدخول الشهر، فوقف في المسجد يصلي التراويح، لا أعتقد أن الأمر بهذه البساطة، دون أن نتألى على الله عز وجل.
بعبارة أخرى، يجب أن يكون هدف كل منا، العتق في أول ليلة من رمضان، فإن لم يتحقق في أول ليلة، كان الهدف ثاني ليلة، وهكذا حتى يتحقق بفضل الله، عندما يرى من المرء اجتهاده وحرصه، فلا أحد يدري ساعة المنية متى تكون، ولا أحد يضمن العيش حتى يدخل رمضان، فهذا أولاً.
الله سبحانه وتعالى عندما فرض العبادات والطاعات، جعل في كل منها هدفاً واضحاً يمكن الوصول إليه وقياسه دنيوياً، فقال سبحانه عن الصلاة إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [العنكبوت : 45] ، وبالتالي من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فعليه أن يراجع صلاته، وقال سبحانه عن الزكاة والصدقات خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [التوبة : 103]، فمن لا يشعر بأنه يتطهر عند التصدق، ومن لا يشعر ببركة رزقه رغم حرصه على الزكاة، فعليه أن يراجع نفسه مرة أخرى.
والصوم ليس بخارج عن هذه القاعدة، ففي القرآن الكريم نقرأ في أول آية للصوم قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة : 183]، وفي سورة البقرة أيضاً في آخر أيات الصوم نقرأ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة : 187]، فكما هو واضح وكما يعرف الكثيرون الأمر إذاً متعلق بالتقوى.
لكن ماهي التقوى؟
تقليدياً تعلمنا أنها أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، وتقليدياً أيضاً يعني هذا الكلام الابتعاد عن المعاصي و المنكرات، وهذا صحيح، لكن في القرآن التقوى لديها معنى آخر أيضاً.
يقول تعالى في أول سورة المائدة وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة : 2]، في هذه الآية يأمرنا الله بالتعاون على البر والتقوى، وينهانا عن التعاون على الإثم والعداون، ثم يأمرنا بالتقوى مرة أخرى، هذا الأمر بالتقوى يكون تعريفه أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، لكن ماذا عن التقوى الأولى، يأمرنا الله بالتعاون على البر، وهو كل حسن، وينهانا عن التعاون على الإثم وهو كل خطيئة، فهما ضدان البر والإثم، ويأمرنا بالتعاون على التقوى وينهانا عن العدوان، فالتقوى إذاً هي مقابل العدوان.
أي عدوان؟ وعلى من؟ بطبيعة الحال أي عدوان على أي أحد نحن منهيون عنه، وأي أحد تشمل أيضاً العدوان على أنفسنا، وهو العدوان الذي يطرد التقوى، هو العدوان على النفس، بتركها لشهواتها ورغباتها، لا يملأها إلا التراب، هذا العدوان الذي يُهلك والعياذ بالله.
فهمنا الآن معنى التقوى بأنها ضد العدوان على النفس بالمعاصي، فما علاقة ذلك بالصوم؟
لنعد لمعنى كلمة الصوم باللغة العربية، فالصوم لغة تعني الامتناع والإمساك، عن أي فعل، حتى ولو كان من الكلام، كما في القرآن الكريم عن مريم عليها السلام إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً [مريم : 26]، فهو إذاً الامتناع، وشرعاً هو الامتناع عن الأكل والشرب، وما يفطر خلال نهار رمضان.
لكن ما علاقة الطعام والشراب بالتقوى، وهل إذا امتنعت عن الأكل والشرب، سأصبح تقياً؟ بالتأكيد لا، فالامتناع عن الطعام والشراب، ماهو إلا رمزٌ فقط، للامتناع الأكبر عن المعاصي والشهوات، والتي هي عدوان على النفس، وهذا الأخير هو الذي يحقق التقوى، وليس عدم الأكل والشرب، بل إن الامتناع عن الأكل والشرب، لا حاجة له إن لم يمتنع المرء عن المعاصي، كما يقول عليه الصلاة والسلام من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه فالحديث واضح تماماً، لا حاجة لترك الطعام والشراب، إن لم يترك المرء هذه المعاصي.
حسناً، علمنا الآن معنى التقوى، ومعنى الصوم، وهدف الصوم، فكيف نقيس ما أنجزناه خلال شهر رمضان؟ للآسف لا يمكن قياس ذلك إلا بعد رمضان، عندما ترى نفسك وتشعر إيمانك هل ينقص قليلاً قليلاً، أم دفعات ودفعات، هل تشعر بالإيمان ملأ قلبك وسيكفيك لشهور قادمة، أم حسبك أول أسبوع ولربما أول يوم من شوال، هنا نستشعر هل قُبل صيامنا؟ وهل حققنا هدف الصيام أم لا؟
ومن نافلة القول أن من قدر على الإمتناع عن المعاصي خلال شهر كامل، فهو قادر على الإستمرار على ذلك بقية أيام السنة، ومن عوّد نفسه على فعل خير خلال شهر كامل، فهو قادر على الإستمرار على هذا الفعل طيلة أيام السنة، فهذا هو المراد من هذا الشهر، حالة إيمانية عالية تعيشها في شهر واحد، وتحاول أن تطبقها بقية أيام السنة، لا أن تحصرها بهذا الشهر، فتصبح عبادة للوقت والزمن، وليست عبادة لله، والعياذ بالله.
بعد أن عرفنا كل ذلك، كيف نستعد للشهر الفضيل؟ بدايةً وقبل كل شيء، يجب أن نتوب لله توبة عامةً شاملة، نغسل بها ما ران على قلوبنا، طوال سنة كاملة، ويجب أن نحدث توبة خاصة لكل ذنب خاص نعرفه، ويترافق ذلك مع كثرة الاستغفار، فهذا ما يغسل القلوب ويلينها، ثم بعد ذلك، نعقد النية على أن نبلي بأحسن ما نستطيع خلال الشهر الفضيل، ليتحقق لنا العتق في أول ليلة فيه،فإن لم يكن ففي التي تليها وهكذا، ثم بعد ذلك زيادة فعل الخيرات، من صلاة وصدقات، وإماطة الأذى عن الطريق، والتبسم في وجوه الناس وغير ذلك كثير من ابواب الخير اللامحدودة بفضل الله.
هذا كله سيُليّن القلوب بإذن الله، ويجعلها مستعدة لجرعة إيمانية عالية، تساعدنا على البقاء متصلين برب العالمين لسنة كاملة ولرمضان قادم بإذنه تعالى.
(منقول للفائدة)