قرأت فى إحدى كتب الدكتور محمد عبد الله دراز حديثا كان قد القاه فى إذاعة القرآن الكريم المصرية بتاريخ 16/5/1954م وكان عن الغيبة. وهذا نصه.....
فاكهة محبوبة شهية لولا أنها مسمومة - ونغمة مطربة شجية لكنها خداعة مشئومة. تلك هى فاكهة المجالس السامرة ، لا يشبع طاعمها ، ونغمة أحاديثها الساخرة لا يمل سامعها. ولكم سألت نفسى عن مجلس لاتقدم فيه هذه الفاكهة ، ولا يسمع فيه هذا النغم....و لقد طال إنتظار الجواب ، حتى ظننت الأمر مرضا وبائيا قد إندلع لهيبه فى كل مكان ، فمن لم تصبه ناره اصابه دخانه ، ليتلقاه سمعه إن لم يتلقف لسانه.
بل كدت أظن أن هذا الأمر وليد فطرة البشر ، أو ريب حياة المجتمع ، و أنه ما دامت الشكوى الشكوى منه متصلة فى كل بيئة وعصر فلا طب لدائه ، ولا أمل فى شفائه.
ولكنى سمعت الله يصف المؤمين المفلحين (و الذين هم عن اللغو معرضون....الأية 3سورة المؤمنون) ويصف عباد الرحمن (وإذا مروا باللغو مروا كراما .....الأية 72 سورة الفرقان) فقلت لا شك أن فى الناس بقية من الخير ، ثم نظرت إلى الجيل الأول من سلف هذه الأمة الذين أدبهم محمد صلى الله عليه وسلم بأدب القرآن ، فرأيتهم قد بلغوا من طهر الحديث و عفة القول أن الكلمة الواحدة من السخرية كانوا يعدونها كأكبر الأعمال الفاجرة ، ويرون أنها لو مزجت بماء البحر لمزجته.... وهكذا ازددت إيمانا بجوهرة هذه النفس الإنسانية ، وما فيها من عناصر نبيلة ، و طاقات كامنة ، وتراءت لى الآفاق العليا التى تستطيع أن تسمو إليه هذه البشرية الحائرة لو تحقق لها شرطان إثنان لاثالث لهما : قيادة رشيدة توجهها الوجهة السليمة ، واستجابة صادقة تمتد فيها الأيدى لمصافحة تلك اليد البرة الرحيمة ، فمتى تجاوبت هكذا نفسية الداعى و المدعو ، ومتى منح الطبيب مريضه نصحا و شفقة ، ومنح المريض مريضه طاعة وثقة ، فهناك تلتقى الكهرباء الموجبة و السالبة فيتولد من بينهما ما شاء الله من حركة وحياة ، وما شاء الله بعد ذلك من وثبات فسيحات نحو المعالى والأمجاد.
و هنا أخذت أتساءل عن الأسلوب الحكيم الذى إتخذه طبيب النفوس الأعظم ، ليطهر نفوس المؤمنين و مجالسهم من هذا الإثم ، فوجدته قد سلك إلى ذلك مسالك عدة :
دعاهم باسم الحجة و البرهان ؛ ثم دعاهم باسم الإيمان ؛ ثم دعاهم باسم الحس و الوجدان.
1- دعاهم باسم الحجة والبرهان
(أيها السامرون الساخرون ، الذين نصبوا انفسهم حكما فيما بينهم و بين الناس: فلأنفسهم أبدا الرضا والثناء و الحمد ، ولغيرهم أبدا السخط والهجاء و الذم ، هل أعددتم لأنفسكم حقا لمنصب هذا الحكم؟ هل أحطتم علما بما فيه تحكمون؟ إنكم تعرفون من شؤون الناس جانبا ويفوتكم منها جوانب ، وإنكم ترضون من أنفسكم لمحات من الخير ، وتنسون فيها كثيرا من المعايب . فهلا بدأتم بالحكم على أنفسكم قبل أن تحكموا على غيركم! وهلا شغلتكم عيوبكم عن عيوب إخوانكم ! و هل آمنتم أن ينقلب الميزا عند الله ، فيكون الحكم عليكم لا لكم؟ (ياأيها اللذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم و لا نساء من نساء عسى أن يكونوا خيرا منهن....سورة الحجرات الأية 11)
2- ثم دعاهم باسم الإيمان
أيها الهمزون اللمازون ، الغيابون العيابون إنكم لا تدرون كنه ما تفعلون ، ولو فكرتم قليلا لعرفتم أنكم لاتعيبون إخوانكم ، ولكن تسبون ربكم .... نعم إن أكثر ما تتفكهون به من عيوب الناس هى عيوب لا ذنب لهم فيها : عيوب ألوانهم ، عاهات أبدانهم ، مظاهر فقرهم ورقة حالهم ، خمول أنسابهم ، مهنة أبائهم و أمهاتم ، سوء أسمائهم و ألقابهم .... ألم تعلموا أن الله أعطى كل شئ خلقه ، وركبه فى الصورة التى إختارها له ، إنه هو الذى يبسط الرزق لمن يشاء ، ويقبضه عمن يشاء ، وهو الذ قسم معيشة الناس ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات ، وهو الذى أخرج الناس من أصلاب أبائهم و أرحام أمهاتهم ، فلم يكن لأحد منهم الخية فى نبل مولده أو خسته ، وف شرف بيئته أو ضعتها..... فمن تعيبون إذا؟ ألستم تعيبون الرحمن فى صنعته ؟ و تتعقبون حكمه فى تدبيره و أسلوب قسمته ؟ أكفر إذا بعد إيمان أعودة إلى الجاهلية بعد أن شرفتم بنعمة الإسلام ؟
(ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان و من لم يتب فأولئك هم الظالمون...سورة الحجرات الأية 11).
3- و أخيرا دعاهم باسم الحس و الوجدان المغروس فى فطرة كل إنسان :
وهاهنا كشف عن الأبصار غطاءها ، و أزاح عن الحقائق نقابها ، و أخرج جسم الحقيقة ماثلا فى سوءة بادية ، تقذى بها العيون ، و ريح منتنة تزكم منها الأنوف ، وطعم كريه تعافه الأذواق تغفى من النفوس.
نعم من لم يعرف كنه جريمة الغيبة ، ولا حقيقة مرتكبيها ، فلينظر إليها و إليهم فى مرآة القرآن ، هنالك يرى ، وياهول ما يرى : خوانا ممدودا قد ألقيت عليه فريسة من البشر ؟ ويرى حول الخوان شرذمة جلودها جلود البشر ، وقلوبها قلوب النمر ، وقد جعلوا ينالون من هذه الفريسة ، لا رميا بالسهام و بالنبال ، ولا طعنا بالخناجر و النصال ، ولكن قضما بالأسنان ، ولكن لعقا باللسان فعل الضوارى بالرمم ... أمن البشر تراهم إذا أم من فصيلة أخرى تأكل لحوم البشر؟ فلو أنهم لقوا فريستهم وجها لوجه ، ونبذوا إليها على سواء : لقنا إن فيهم بقية شهامة ، ولكنهم لقوها مجردة من كل سلاح ، عاجزة عن كل دفاع ، فأتوها من قبل ظهرها ، فى ساعة غفلتها ، بل فى وقت موتها ، فأقبلوا عليها نهشا ونهبا ومصا وعرقا ، هل رأيت أفجر و أغدر ؟ أم هل رأيت أرذل و أنذل ؟ وما ظنك بعد هذا كله لو كان المأكول أخا للآكلين ، أخا فى أسرة النسب ، أو أخا فى أسرة الدين؟
تلك هى جريمة الغيبة كما صورها القرآن فى كلمات بليغة خالدة (و لا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا....سورة الحجرات الأية 12)
أيها الصائمون لإن كانت هذه طعمة خبيثة ، و فاحشة شنيعة فى كل زمان ، لهى فى زمن الصوم أخبث وأفحش و أشنع ، إنها تكذب الصوم و تنقضه ، وتحبطه و تبطله ، أصوم عما أحل الله ، و أفطر على ما حرم الله ؟
أيها الصائمون (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين.....سورة النور الأية 17).
و السلام على من إتبع الهدى
منقول