أهمية تدبر القرآن الكريم
إن فضل القرآن الكريم كبيرٌ وعظيم, فهو الذي أخرج به الله - عز وجل - هذه الأمة من الضلالة العمياء, والجاهلية الجهلاء إلى نور الهداية وسبل السلام, هو كلام الله المعجز المنزل, وصراطه المستقيم, ونهجه القويم, هو رسالة الله, ومعجزته الباهرة, ورحمته الواسعة, وحكمته البالغة, ونعمته السابغة, نهل من معينه العلماء, وخشعت لهيبته الأبصار, ورقَّت له القلوب الصادقة, وقام بتلاوته العابدون والراكعون والساجدون.
القرآن الكريم: نور الصدور، وجلاء الهم والغم، وفرح الفؤاد، وقرة العين.
وإنَّ كِتَابَ اللهِ أوثقُ iiشَافِعٍ * وأغنى غَناءًا واهباً iiمُتَفَضِّلا
وخيرُ جليسٍ لا يُمَلُّ iiحديثُهُ * وتَرْدَادُه يزدادُ فيه iiتَجَمُّلا
فيا أيُّهَا القَارِي بهِ iiمُتمسِّكاً * مُجِلاً له في كلِّ حالٍ مُبَجِّلا
هنيئاً مريئاً والداكَ iiعليهِما * مَلابسُ أنوارٍ مِن التَّاجِ والحُلى
هو كما يقول الإمام الشاطبي - رحمه الله -: " كلية الشريعة, وعمدة الملة, وينبوع الحكمة, وآية الرسالة, ونور الأبصار والبصائر, فلا طريق إلى الله سواه, ولا نجاة بغيره, ولا تمسك بشيء يخالفه".
هو كما قال - جل جلاله - عنه: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ).
وقد أمر رسولنا - عليه الصلاة والسلام - بمداومة تلاوته وتعاهده, وحذر من جفوته وقطيعته؛ كيلا تنقطع تلك الصلة الحية بين المسلم وربه وكتابه.
ولهذا إذا نظرنا إلى هديه - صلى الله عليه وسلم - مع القرآن وجدنا له - كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد -: " حزباً يقرؤه, ولا يخل به, وكانت قراءته ترتيلاً لا هذاً ولا عجلةً, بل قراءةً مفسرةً حرفاً حرفاً, وكان يُقطِّعُ قراءته آية آية, وكان يمد عند حرف المد.. وكان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في أول قراءته... وكان يحب أن يسمع القرآن من غيره.. وكان يقرأ القرآن قائماً, وقاعداً, ومضطجعاً،ً ومتوضئاً, ومحْدِثاً, ولم يكن يمنعه من قراءته إلا الجنابة, وكان - صلى الله عليه وسلم - يتغنى به".
يقول العلامة صالح الفوزان - حفظه الله -: " ينبغي للمسلم أن لا يمر عليه شهر على الأقل إلا وقد قرأ القرآن كله, هذا هو الحد الأخير، وإن قرأه فيما هو أقل من ذلك في كل عشرة أيام مرة بحيث يختمه في الشهر ثلاث مرات فهذا أحسن, وإذا قرأه في كل سبعةِ أيامٍ مرة فهذا أحسن, وإذا قرأه في كل ثلاثة أيام مرة فها أحسن, فإنه كلما زاد من تلاوة القرآن زاد أجره واستنارت بصيرته, وحياة قلبه".
في هذا الكتاب العظيم عزنا في الدنيا والآخرة, وهو ذكرنا بين الأمم قاطبة؛ فإن تركناه وأضعناه, واتخذناه ظهرياً, ضعنا وذللنا, وتكالبت علينا أممُ الأرض كلها، وجاءتنا البلايا والفتن والمحن من كل جانب.
لم ينزل هذا الكتابُ ليقرأ تبركاً فقط، ولا لافتتاح الاحتفالات أو المؤتمرات أو للزينة والزخرفة, أو يحتفظ كل واحد منا بنسخةٍ منه في بيته, ويبقى مركوناً يعلوه الغبار.
لقد أحب الرعيل الأول من الصحابة - رضي الله عنهم - القرآن الكريم وعملوا به, واحتكموا إليه, وتربوا عليه, فأعزهم الله بالقرآن, وأعلى شأنهم وحولهم إلى أحسن حال, وأرفع مكانةٍ, فنقلهم من رعاة إبل وغنم, وعباد أصنامٍ, إلى قادة أمم وشعوب, ومن قبائل متحاربةٍ متخاصمة, إلى أمة متآلفة متحابة، يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: " أُنْزِل القرآن عليهم ليعملوا به, فاتخذوا دراسته عملاً, إن أحدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته لا يسقط منه حرفاً, وقد أسقط العمل به ".
ويقول الحسن البصري - رحمه الله تعالى - عنهم: " إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم, فكانوا يتدبرونها بالليل, وينفذونها بالنهار".
وقال الإمام القرطبي - رحمه الله تعالى -: " فكانت حالهم - يعني رسول الله وأصحابهُ رضي الله عنهم - عند المواعظ: الفهمُ عن الله, والبكاء خوفاً من الله, ولذلك وصف الله أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكر الله وتلاوة كتابه فقال: (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ).
فهذا وصفُ حالهم وحكايةُ مقالهم... فمن كان مستنَّا فليستن".
لقد رغب الإسلام في تعلُّمِ وتعليم العلم الشرعي عامةً, وجعل ذلك من أفضل العبادات وأجل الطاعات التي يتقرب بها إلى الله جل جلاله, وأشرف العلوم وأجلها كتاب الله - تبارك وتعالى - بل لقد عد العلماء تدبر القرآن, وتفهم علومه, والدعاء إليه من النصح لكتاب الله – تعالى - الوارد في حديث تميم الداري - رضي الله عنه - في صحيح مسلمٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الدين النصيحة قلنا لمن؟ قال: لله, ولكتابه, ولرسوله, ولأئمة المسلمين وعامتهم ".
قال ابن رجب - رحمه الله تعالى -: " أما النصح لكتاب الله: فشدةُ حبه, وتعظيم قدره؛ إذ هو كلام الخالق, وشدة الرغبة في فهمه, وشدة العناية لتدبره, والوقوف عند تلاوته؛ لطلب معاني ما أحب مولاه أن يفهمه عنه, ويقوم به له بعد ما فهمه, وكذلك الناصح من العباد يفهم وصية من ينصحه, فكذلك الناصحُ لكتاب ربه, يُعنى بفهمه؛ ليقوم لله بما أمر به كما يحب ويرضى, ثم ينشر ما فهم في العباد, ويديم مدارسته بالمحبة له, والتخلق بأخلاقه, والتأدب بآدابه ".
وقال أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله تعالى -: " والنصيحة لكتابه: الإيمان به وتعظيمه, وتنزيهه، وتلاوته حق تلاوته, والوقوف مع أوامره ونواهيه, وتفهم علومه وأمثاله, وتدبر آياته, والدعاء إليه ".
ولأهل العلم - رحمهم الله – كلام كثير في أهمية التدبر والتفكر في معاني القرآن الكريم وأسراره؛ فمن ذلك قول الإمام النووي - رحمه الله تعالى - في كتابه [التبيان في آداب حملة القرآن]: " فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر عند القراءة, والدلائل عليه أكثر من أن تحصر, وأشهر وأظهر من أن تذكر, فهو المقصود والمطلوب, وبه تنشرح الصدور, وتستنير القلوب, قال الله – عز وجل -: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ).
وقال – تعالى -: (أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ).
والأحاديث فيه كثيرة, وأقاويل السلف فيه مشهورة, وقد بات جماعاتٌ من السلف يتلون آيةً واحدةً يتدبرونها, ويردِّدُونها إلى الصباح, وقد صعق جماعاتٌ من السلف عند القراءة, ومات جماعات منهم حال القراءة, روينا عن بهز بن حكيمٍ, أن زرارة بن أوفى التابعي الجليل - رضي الله عنه - أمّهمُ في صلاة الفجر فقرأ حتى بلغ: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ* فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) خرَّ ميتاً, قال بهز: فكنتُ فيمن حمله.
وكان أحمد بن الحواري - رضي الله عنه - وهو ريحانة الشام - كما قال أبو القاسم بن الجنيد رحمه الله - إذا قُرئَ عنده القرآن يصيح ويصعق ".
وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: " فليس أنفع للعبد في معاشه ومعاده, وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن, وإطالة التأمل, وجَمْعُ فيه الفكر على معاني آياته, فإنها تُطْلعُ العبد على معالم الخير والشر.. وتُثبِّتُ قواعد الإيمان في قلبه, وتُشِيدُ بنيانه, وتوطد أركانه.. وتعطيه قوةً في قلبه, وحياةً وسعةً, وانشراحاً, وبهجةً وسروراً, فيصيرُ في شأنٍ, والناس في شانٍ آخر.. فلا تزال معانيه تنهض بالعبد إلى ربه, وتُثِّبتُ قلبه عن الزيغ والميل عن الحق, وتناديه كلَّما فترت عزماته, ودنى في سيره: تقدم الركب, وفاتك الدليل.. وفي تأمل القرآن وتدبره أضعاف أضعاف ما ذكرنا من الحكم والفوائد ".
وقال الإمام الغزالي - رحمه الله تعالى -: " كثر الحث في كتاب الله – تعالى - على التدبر والاعتبار والنظر والافتكار, ولا يخفى أن الفكر هو مفتاح الأنوار, ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم, ومصيدة المعارف والفهوم, وأكثر الناس قد عرفوا فضله ورتبته لكن جهلوا حقيقته وثمرته ومصدره ".
وقال الإمام ابن جماعة - رحمه الله تعالى -: " وينبغي له إذا تلا القرآن أن يتفكر في معانيه وأوامره ونواهيه, ووعده ووعيده, والوقوف عند حدوده...".
وقال الإمام الزركشي - رحمه الله تعالى - : " من لم يكن له علمٌ وفهمٌ وتقوى وتدبر, لم يُدْرك من لذة القرآن شيئاً ".
وقال العلامة ابن جرير الطبري - رحمه الله تعالى -: " إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذُّ بقراءته!".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: " من تدبر القرآن طالباً للهدى منه تبين له طريق الحق".
وقال إبراهيم الخواص - رحمه الله تعالى -: " دواءُ القلوب في خمسةٍ - وذكر أولها -: قراءة القرآن بالتدبُّر ".
وقال العلامة ابن سعدي - رحمه الله تعالى - عند قوله – تعالى -: (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ): " فيستخرجوا علمها ويتأمَّلُوا أسرارها وحكمها, فإنه بالتدبر فيه، والتأمل لمعانيه, وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرةٍ, تُدْرَكُ بركته وخيره, وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن, وأنه من أفضل الأعمال, وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود ".
فيا لسعادة من أحب القرآن، وأقبل عليه تعلماً، وتعليماً، وتلاوة، وبذلاً، وعملاً لأجل نشره، والدعوة إليه؛ فيا لسعادة ذلك، ويا لعزته في الدنيا والآخرة، ويا لِحرمان من حُرم ذلك الخير، وصُدّ عن ذلك النور.