موضوع: سلسلة سيرة المصطفى علية الصلاة والسلام الأربعاء 11 أغسطس - 7:24:15
سيرة الرسول محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم- سيد الخلق وإمام الأنبياء، وحامل خاتم رسالات رب العالمين إلى الناس، النبى الأمى الذى سنتجول فى دروب حياته، نتنسم سيرته، ونتعقب خطواته، ونتسمع أخباره، ونسعى فى صحراء الجزيرة العربية نبحث، ونفتش ونقلب كتب التاريخ كى نتلمس آثاره، وفى رحلتنا تلك سنشاهد أحوال العالم قبل البعثة، ونطالع فصول حياته قبل نزول الوحى، ونتفهم كيف بدأ الدعوة سرًا؟، وكيف جهر بها؟، وكيف خرج بها من مكة؟، بل كيف خرج هو -صلى الله عليه وسلم- من مكة مهاجرًا إلى مدينته المنورة، حيث أسس لدعوته الدولة التى تحملها للناس، وسنرى كيف جاهد ببسالة كفار قريش؟ دفاعًا عن مدينته، حتى وقعت بينهما الهدنة. وما كسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدها قط، وما خلد إلى الراحة فى دولته، بل جعل الهدنة فرصة ليثبت أمر الدين، وينشر نور الحق، إلى أن كان الفتح، وكان دخول الناس فى دين الله أفواجًا. وفى رحلتنا تلك لن ننسى أن نلمح بيته ونعرف صفته، وندرك ماجعل الله على يديه من معجزات براقة.العالم قبل البعثة..
قد يألف المرء النعمة، وقد تأنس عيناه النور؛ لكنه لن يعرف حمدًا حتى يدرك سلب النعمة وفوات النور، والناظر فى دنيا الإسلام لن يعرف فضله حتى يبصر كيف تهاوى الإنسان فى القرنين السادس والسابع فى أودية الظلم، وكيف تردى فى درب الشيطان، حين فقد عقله، وخفت فى الصدر نور قلبه، وجعل على عينيه غشاوة كفر تحجب عنه الإيمان. ذلك ما وصل إليه الأمر فى الحضارات السابقة المختلفة، وما وصل إليه الحال فى أمم العرب قبل البعثة.- الحضارات السابقة: ما أشقى الإنسان حين يبتعد عن منهج ربه، يزعم أنه يعلى من شأن عقله، ويحرر إرادته، فإذا عقله يرتع فى أودية الضلال، ويحشى بالأساطير والخرافات، وإذا هو مكبل بقيود أطماعه وشهواته، وشرائعه العقيمة التى سنها لنفسه، ثم أنت تتلفت فى دياره التى خلف، وآثاره التى ترك، تبحث عن حضارته، فلا تجد إلا أحجارًا منحوتة، ورسومًا منقوشة، وأعمدة شاهقة، وأبنية سامقة، فإذا فتشت عن الإنسان وجدته حائرًا ضائعًا ليس فى قلبه إلا الجزع، وما فى عقله إلا الخواء، فأين الحضارة إذن؟! ذلكم ما آل إليه أمر العالم قبل البعثة. الفرس فى المشرق، والروم فى المغرب، ثم إذا أنت توغلت فى آسيا صادفتك أممها الوسطى، ثم الهند والصين فى أقصى شرقها، فإذا أنت عرجت إلى أوروبا لم تجد ما يبهج فؤادك، وقد تتساءل عن حملة رسالة موسى -عليه السلام-، فلا تجد أمامك إلا اليهود وهم فى أشقى حال، وقد تأخذك قدماك إلى الحبشة فى إفريقيا، أو إلى مصر أقدم الحضارات، فلا تجد فى هذا القرن الميلادى السادس إلا ما يدمى قلبك ويدمع عينيك، لكن لعلها كانت ظلمة الليل البهيم التى تنبئ عن فجر يشرق بعدها!.- العرب قبل البعثة: إنها لآية عظيمة من آيات الإسلام، حين يأتى قوم ما كان أحد يسمع عنهم إلا البداوة والشقاوة، فلا تمر بهم إلا سنون معدودة، فإذا نورهم يغمر الأرض بأقطارها، وإذا حضارتهم تسود ويقتبس منها كل أحد. سكن العرب جزيرتهم المعروفة، وانقسم أقوامهم إلى ثلاثة أقسام: العرب البائدة: كعاد، وثمود، وعملاق، وسواها ممن لا يعرف عن تفاصيل تاريخهم شىء، والعرب العاربة أو القحطانية: أبناء يعرب بن يشجب بن قحطان، والعرب المستعربة أو العدنانية: أبناء إسماعيل -عليه السلام-. وكان للعرب فى جزيرتهم أوضاعهم السياسية، والدينية، والاجتماعية، والاقتصادية، والخلقية، التى تميزوا بها، والتى يلزم معرفتها لإدراك الواقع الذى واجهه الإسلام وهو بعد فى مهده الأول: مكة المكرمة شرفها الله
حياته قبل البعثة..
الثمرة الطيبة لا تخرج من شجرة خبيثة الأصل، والبناء الشامخ لا بد له من أساس متين، ونبىٌ يراد له أن يحمل هداية الله إلى العالمين حتى قيام الساعة، لا بد أن تتعهده رعاية الله وتوجيهه حتى يؤهل للقيام بهذه المهمة الجليلة. ولا شك أن شرف نسبه وأسرته -صلى الله عليه وسلم-، ورعاية الله له فى مولده ورضاعته، وتعهده به صلى الله عليه وسلم، فى طفولته وصباه، ثم الكيفية التى قضى بها النبى الكريم حياته من الشباب إلى البعثة -لا شك أن ذلك كله كان تقديمًا رائعًا لبعثة نبىٍّ عظيم.
- نسبه وأسرته -صلى الله عليه وسلم: اصطفى الله سبحانه وتعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- من أزكى ولد إسماعيل نسبًا، وشرف النسب لا يمنح الرجل الخامل ذكرًا أو شرفًا، لكن اجتماعه لمن اتصف بحميد الخلق، واكتسى بالهيبة، وتزين بالعقل والحلم، يزيده قدرًا وشرفًا ورفعة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو: محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم، وينقسم نسبه -صلى الله عليه وسلم- إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول إلى عدنان، والجزء الثانى إلى إبراهيم -عليه السلام-، والجزء الثالث إلى آدم -عليه السلام-، وقد اتفق على صحة الجزء الأول لكن اختلف فى الجزئين التاليين، أما أمه -صلى الله عليه وسلم- فهى: السيدة آمنة بنت وهب.
- مولده ورضاعته -صلى الله عليه وسلم: حملت صبيحة الإثنين التاسع من شهر ربيع الأول لأول عام من حادثة الفيل، والموافق للعشرين أو الثانى والعشرين من إبريل عام (571م)-حملت صبيحة ذلك اليوم للدنيا أجمل وأجل هدية: ميلاد محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولم تجد آمنة أمُّ خاتم النبيين يد عبد الله زوجها؛ لتربت عليها، وتشاركها فرحتها بوليدها الصغير، ولكنها أرسلت إلى جده عبدالمطلب تبشره بالغلام النجيب، وامتلأ قلب الشيخ الذى كساه الحزن؛ لفقد ولده الشاب الأثير- امتلأ بالبهجة والبشر، وأسرع فأخذه، وسار به حتى دخل الكعبة، ثم دعا الله وشكر له، واختارله اسم محمد، ولما كان اليوم السابع لمولده ختنه على عادة العرب، وأمر بناقة فنحرت، ثم دعا رجالاً من قريش فحضروا وطعموا. وكانت عادة ساكنى الحضر من العرب يومئذ أن يلتمسوا المراضع لأولادهم، لتقوى أجسامهم، ويتقنوا اللسان العربى فى مهدهم، فالتمس عبدالمطلب من ترضع حفيده المحبوب، حتى صار الأمر لامرأة من بنى سعد بن بكر هى: حليمة بنت أبى ذؤيب، وفى ديار حليمة نشأ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتحرك لسانه بما تعلم، ودبت قدماه تسعى فى ديار بنى سعد وباديتهم، وبهذه البادية حدثت له -صلى الله عليه وسلم- حادثة شق الصدر الشهيرة، والتى كانت إرهاصًا بعظم شأنه -صلى الله عليه وسلم-.
- طفولته وصباه -صلى الله عليه وسلم: عاد محمد -صلى الله عليه وسلم- من ديار حليمة إلى أحضان أمه، التى طال اشتياقها إليه، وحنت عليه آمنة حتى بلغ عندها ست سنين، ثم إن الأرملة الوفية لذكرى زوجها الشاب عبدالله، قد عزمت أن ترحل إليه بالمدينة، فترى قبره، وتُرى محمدًا أخواله من بنى النجار، خرجت آمنة فى رحلة تبلغ خمسمائة كيلو متر، تصحب ابنها وخادمتها أم أيمن، ويصحبها عبدالمطلب، يحدوهم جميعًا حنينهم إلى قبر عبدالله، ومكثت آمنة بالمدينة شهرًا، ثم عُقِدَ العزم على الرحيل، لكنْ محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- وقد طالعت عيناه قبر أبيه فتجسد لديه معنى اليتم جليًا، كانت الأقدار تخبئ له مفاجأة أليمة أخرى فقد ألح المرض على أمه ولاحقها، حتى قضت نحبها بالأبواء بين مكة والمدينة، وعاد يتيم الأبوين حزينًا مع جده العطوف إلى مكة، فيكرمه جده، ويحبه، ويحنو عليه، بل ويقدمه على أبنائه، ويروى أن فراشًا كان يبسط لعبد المطلب فى ظل الكعبة لا يقربه أحد إجلالاً له حتى يخرج إليه، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتى فيجلس عليه، فإن أراد أعمامه أن يؤخروه ولمحهم جده نهاهم عن ذلك، وأقره على ما يصنع، لكن أين يجد شيخ الثمانين متسعًا من الوقت ينشئ فيه حفيده؟. عاجلت المنية عبد المطلب فمات، وقد أوصى ابنه أبا طالب برعاية الحفيد اليتيم، وقام أبو طالب بمهمته خير قيام، وظل يساند ظهر محمد -صلى الله عليه وسلم- ويعضد جانبه ما يربو على الأربعين عامًا، ورحل محمد -صلى الله عليه وسلم- معه إلى الشام مرة وهو فى الثانية عشرة من عمره، فلقيا فى الطريق بحيرا الراهب، فعلم أنه نبى هذه الأمة ورده إلى مكة مخافة عليه، وشارك قريشًا حربها ضد قيس عيلان، وهو بعد فى الخامسة عشرة فى حرب الفجار، ثم شهد على أثره حلف الفضول بدار ابن جدعان إذ تحالفوا على نصرة المظلوم والغريب. وهكذا قضى النبى الكريم -صلى الله عليه وسلم-، طفولة امتزج فيها حنان الجد بألم اليتم والفراق، واللعب واللهو بالجد والحرب مع الكبار.
- من الشباب إلى البعثة: ورث محمد -صلى الله عليه وسلم- عن آبائه المجد والمكانة، وحفظه الله أن تصيبه لوثات الجاهلية، كما طهره من أدرانها، فكان خلقه قبل البعثة مثلاً بين قريش، لكنه -صلى الله عليه وسلم- لم يرث عن آبائه متاعًا أو تجارة فكان على شرف نسبه، وسمو مكانته، يسعى فى الأرض، يفتش عن رزقه، ويكدح يومه مجابهًا شظف العيش، وخشونة الحياة، وهو فى ذاك يتنقل بين رعى الغنم، والتجارة لخديجة، التى تزوجها بعد أن رأت من كريم خلقه مالم تر فى أحد من قريش، ويبقى بناء الكعبة والتحكيم بين المختلفين فيها أحد أهم الحوادث التى شارك فيها قبل بعثته.
نزول الوحي: - غار حراء: على مسافة تقارب الميلين من مكة كان محمد -صلى الله عليه وسلم- يجد فى سكون غار حراء فسحة للتفكير والتأمل، ولا يحظى بها فى مكة الصاخبة، فكان يقيم فيه شهر رمضان، يطالع كتاب الله المنشور فى الكون باتساعه، ويقضى وقته فى عبادة إله هذا الكون، الذى رأى قدرته، وتاقت نفسه لمعرفة صفاته وأحكامه، حتى صفت نفسه، وزكا فؤاده، وأصبح مستعدًا لاتصاله بعالم الغيوب، فكانت الرؤيا -إحدى أجزاء النبوة- تأتيه فيجدها تجىء كفلق الصبح، واستمر على ذلك ما يناهز الشهور الستة، حتى كان نزول جبريل عليه بالغار فى رمضان، بعد أن تجاوز النبى -صلى الله عليه وسلم- الأربعين من عمره.
نزول جبريل عليه السلام: فى إحدى الليالى الوترية بالعشر الأواخر من رمضان، وقد أتم النبى -صلى الله عليه وسلم- الأربعين من عمره، كانت الدنيا حيرى فى ظلمات الجاهلية المشتاقة إلى نور الله، قد استعدت لاستقبال رسول رب العالمين، الأمين جبريل -عليه السلام-، أما محمد -صلى الله عليه وسلم- المتحنث فى غاره بغية الحق، فقد أصابه الفزع لنزول جبريل، وارتعد فؤاده لمجيئه، وضاعف من اضطرابه -صلى الله عليه وسلم- سؤال جبريل له أن يقرأ، وهو الرجل الأمى، أما جبريل -عليه السلام- فإنه بعد أن أعاد محمد قوله: ما أنا بقارئ، للمرة الثالثة فقد قام بإبلاغه أولى كلمات رب العالمين المرسلة إلى خاتم المرسلين -عليهم الصلاة والسلام-: (اقرأ باسم ربك الذى خلق). مضى جبريل إلى سمائه وبقى محمد -صلى الله عليه وسلم- فى غاره مضطربًا فزعًا، ما هذا الذى حدث له؟، من كلمه؟، وما هذه الكلمات التى نقشت فى صدره؟، لقد عهد الرؤيا الصادقة وتعود عليها، لكن ماذا يحدث له الآن؟ أتراه قد جن؟، إن نفسه ليس عليها شىء أبغض من شاعر أو مجنون، فإن كان قد جن فالموت خير له!! هكذا قرر فى ساعة فزعه بل وأسرع ينفذ خطته بأن يلقى نفسه من شاهق، لكنه ما إن توسط الجبل حتى سمع صوتًا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل، فرفع رأسه إلى السماء فإذا جبريل فى صورة رجل صاف قدميه فى أفق السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل، وتسمر النبى -صلى الله عليه وسلم- فى مكانه، فما يتقدم أو يتأخر، وقد شغله ذلك عما أراد، وبعثت خديجة -رضى الله عنها- رسلها يبحثون عنه فى مكة فما وجدوه، وعادوا إليها، أما محمد -صلى الله عليه وسلم- فما إن ذهب عنه جبريل حتى أسرع هابطًا إلى خديجة زوجته العاقلة الحنون، يجلس إلى فخذها، ويلتصق بها، يقص عليها غريب خبره وعجيب أمره، فتطمئنه خديجة بقولها: أبشر يابن العم واثبت. فوالذى نفس خديجة بيده إنى لأرجو أن تكون نبىّ هذه الأمة. ثم انطلقت خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل لتقص عليه الخبر. مع ورقة بن نوفل - قدوس قدوس، والذى نفس ورقة بيده لقد جاءه الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى، وإنه لنبى هذه الأمة فقولى له فليثبت. هكذا كانت كلمات ورقة الحاسمة، إلى خديجة المتسائلة، أليس ورقة رجلاً يقرأ فى الكتب السابقة؟، أليس هو يعرف قرب أوان نبى هذه الأمة وصفته؟، ثم أليس هو يعرف محمدًا؟، ففيم التردد وفيم الدهشة؟ محمد نبى هذه الأمة! هذه هى الحقيقة ببساطة، وما صنع ورقة سوى أن رددها بلسانه! ثم إذا قابل محمدًا -صلى الله عليه وسلم- تمنى فقال: يا ليتنى فيها جذع، ليتنى أكون حيًا إذ يخرجك قومك، ثم يجيب النبى المتعجب من إخراجه: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا. سنن متتابعة ليس منها مفر، ولا عنها من محيص، لكن ورقة لم يدركه يوم محمد -صلى الله عليه وسلم- ليبر بوعده، فما لبث إلا يسيرًا حتى مات ورقة. إن فؤاد محمد -صلى الله عليه وسلم- القلق، ونفسه الفزعة قد أذهب ما بهما حديث خديجة المطمئن، وكلمات ورقة الثابتة، لكن محمدًا وقد ذهب قلقه، وانتهى فزعه، تلفت مشتاقًا ليرى وحى ربه فلم يجده وانتظر أيامًا، فتباطأ الوحى عنه. ومحمد -صلى الله عليه وسلم- الذى روى عنه من أيام إسراعه إلى خديجة مضطربًا يروى عنه الآن شدة حزنه وألمه لفراق الوحى، حزنًا جعله يعدو مرارًا ليتردى من رؤوس شواهق الجبال، لكنه كلما همّ بشىء من ذلك تبدى له الأمين جبريل -عليه السلام- قائلاً: يا محمد إنك رسول الله حقًا. فيسكن بذلك جأشه وتقر نفسه، فإن طال عليه الأمد عاد لما يصنع، فعاد الوحى لما يصنع به!! وظل هكذا أيامًا حتى آب إليه الوحى. علم محمد -صلى الله عليه وسلم- أنه نبى! وانتظر الوحى، ولعل تشوقه إليه كان ضروريًا لاحتماله عند اللقاء، وبينما النبى -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم يمشى إذ رفع بصره إلى السماء فرأى جبريل قاعدًا على كرسى بين السماء والأرض، فهوى النبى -صلى الله عليه وسلم- على الأرض فرقًا، وجاء خديجة يرتعش مرددًا: زملونى زملونى؛ فأنزل الله تعالى إليه: (يا أيها المدثر..) إلى قوله (..والرجز فاهجر)، ثم حمى الوحى وتتابع بعد ذلك وكانت تلك الآيات أمرًا بالدعوة بين الناس. إن كانت مقدمة الرسالة دعوة النبى الكريم أن يقرأ، يقرأ هذه الرسالة، ويقرأ باسم ربه، لأنه الذى خلق، وأكرم، وعلّم، فإن الدرس الأول بهذه الرسالة كان درسًا جامعًا حقًا، فعلى بساطة الكلمات وسرعة تتابعها، إلا أنها حملت الكثير من المعانى، ومن بين هذه المعانى كان الأمر الأول للمدثر-صلى الله عليه وسلم- أن يقوم لينذر، وغاية الإنذار هنا: تبليغ دعوته كل إنسان يتنفس فوق الأرض، آمن هذا الإنسان أم لم يؤمن، واتبع فاهتدى أم أعرض فتردى! أما باقى المعانى المتتالية فتكبير لله حتى لا يكون هناك كبرياء إلا له وحده، وتطهير للظاهر والباطن من النجس والشوائب والعلل، واستصغار للجهد والعمل مهما بلغ أو وصل، ثم صبر بعد ذلك فى الله -عز وجل-، على ما يلقاه من جهد أو عنت.
الدعوة سرًا: عن أدران الجاهلية، وحماقاتها المتعددة، ومساوئها المختلفة، نأى محمد -صلى الله عليه وسلم- وابتعد، ليس بروحه الطاهرة فحسب، بل بجسده أيضًا. إذ كان يمكث الليالى ذوات العدد فى غار حراء متعبدًا لربه ومتقربًا. ودون تأهب منه أو توقع؛ فوجئ -صلىالله عليه وسلم- بنزول الوحى إليه، وتبليغه برسالات ربه. وما كان على النبى الأمين -صلى الله عليه وسلم-، إلا أن يبلغ النور الذى يحمله إلى الناس من حوله، فظل يبلغ الدعوة سرًا طوال ثلاثة أعوام، ينتقى من يلتمس فيه صلاحًا، فيسمعه القرآن المنزل عليه، ويجمعه مع إخوانه الذين سبقوه لدين الله، منتظرًا ومتهيئًا نزول أمر الله بالجهر بدعوته.
الدعوة جهرًا: ما إن نزل أمر الحق تبارك وتعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بالجهر بالدعوة، حتى قام النبى على جبل الصفا؛ يعلن على الملأ حقيقة رسالته. لكن الآذان التى لم تتعود سماع الحق، والعقول التى ألفت الدعة والنوم، والنفوس التى عشقت الضلال حتى أدمنته، لم ترض لنور الله أن يسطع بين حنايا مكة؛ حتى يكون لها فى منعه دور ونصيب. وقد تحمل النبى -صلى الله عليه وسلم-، وعصبته المؤمنة مخاطر وألم المواجهة والإيذاء، وسطروا بدمائهم وأرواحهم أروع آيات الصبر والثبات. وهم إن عدموا ملجأ يحتمون به فى دروب مكة ودورها على تعددها واتساعها فقد وجدوا فى دار أخيهم الأرقم النائية بعض الأمن وبعض الجزاء، فبين جدران هذه الدار المباركة كانوا يتعلمون أحكام دينهم، ويتربون على قيمه السامية، ثم كان فى الهجرة إلى الحبشة بعد اشتداد الإيذاء الحماية والمنعة، فى بلد عُرِفَ ملكها بالعدل والإنصاف. أما مسلمو مكة ممن لم يهاجروا إلى الحبشة، فقد قويت شوكتهم بإسلام حمزة وعمر -رضى الله عنهما-. ولما أيست قريش من أساليب المواجهة والإيذاء لجأت لأساليب المساومة والإغراء، لكن هيهات لمن رأى النور الحق أن يخدع ببريق الشهوات. وعلى حمية الجوار جمع أبو طالب بنى هاشم وبنى المطلب، لنصرة ابن أخيه، وهنا لم يبق لقريش إلا أن تعلن المقاطعة العامة للمسلمين وأنصارهم، وكما صبر المسلمون على ألم الإيذاء، وفتنة الإغراء، مشوا بأقدامهم على أشواك هذه المقاطعة ليصلوا إلى هدفهم النبيل. وكمحاولة يائسة حيرى أخيرة أرسلت قريش وفدًا منها إلى أبى طالب؛ ليعاود المفاوضة، ولم يعد إلا بما استحقه: خفَّى حنين. وفى العام العاشر للنبوة ألمت برسول الله والمسلمين مصيبتان: وفاة أبى طالب، ووفاة خديجة -رضى الله عنها- ؛ فسُمِّىَ هذا العام بعام الحزن.
- المواجهة والإيذاء: صارح محمد -صلى الله عليه وسلم- قومه بضلالهم، وواجههم بالنور الذى يحمله، لكن الأعين التى أنست الظلمة إذا واجهتها الأضواء أبت وتألمت، أعلنت مكة الحرب على نبيها وأتباعه من اليوم الأول، شنت عليه حربًا دعائية لتصرف الناس عنه، ثم استخدمت سلاحى السخرية، وإثارة الشبهات؛ لتفت فى عضده، وأخذت فى اختراع الحيل لإشغال الناس عنه، وبين الترغيب والترهيب كان استخدامها للمساومة مرة والاضطهاد مرات أخرى، وصارت تضغط بثقلها على حاميه بمكة: عمه أبى طالب، أما المسلمون الذين آمنوا به فقد توافر لهم من عوامل الصبر والثبات ما يسّر لهم اجتياز هذه المحنة، ومن وضوح الطريق ما أعانهم على السير فى هذه الظلمة.
- دار الأرقم: الوضع فى مكة جد خطير، فالدعوة الوليدة تنساب إلى كل بيت، تهز كيان مكة الدينى، وتزعزع أركان قريش فى أرض العرب، وأعين المشركين وآذانهم تعد على المسلمين أنفاسهم، وتحصى خطواتهم، وتتسمع أخبارهم، لتجهز عليهم، ولذا كان من الواجب على المسلمين أن يستتروا، وأن يتخفوا عند اللقاء، وبدار الأرقم بن أبى الأرقم كان اجتماعهم الدورى بنبيهم -صلى الله عليه وسلم- وكان وراء اختيار هذه الدار أسباب وجيهة. أما ما كان يحدث داخلها، بعيدًا عن أعين قريش، فكان حدثًا فريدًا فى التاريخ، صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أول من آمن به وصدقه ودافع عن دين الله، يجلسون إلى رسول العالمين بنفسه، يتلقون منه آخر ما نزل به جبريل الأمين من ربه -عز وجل-، تلقيا دائمًا مستمرًّا، تزكو به نفوسهم، وتتطهر قلوبهم، وتصاغ عقولهم وأرواحهم صياغة جديدة، رحم الله الأرقم ورضى عنه، لقد جعل داره مرفأ لسفينة الإيمان، ومهدًا لدعوة الله عز وجل، ومدرسة تلقى فيها الأولون دينهم.
- الهجرة إلى الحبشة : الدفاع عن النفس، وقتال من بغى واعتدى، لم ينزل أمر الله به بعد، والبقاء فى مكة أصبح مستحيلاً، مع هذا الاضطهاد والتعذيب، فماذا يفعل المسلمون إذن؟ إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرحيم بأمته، قد ارتأى لهم أن يفروا بدينهم إلى ديار آمنة، فأشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة، فهاجر منهم فى رجب سنة خمس من النبوة اثنا عشر رجلاً، وأربع نسوة، رئيسهم عثمان بن عفان، ومعه زوجه السيدة رقية بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد هاجر هؤلاء الصحابة تسللاً وخفية، فى سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة، حيث النجاشى الملك العادل، الذى لا يظلم عنده أحد. وما كاد المسلمون المهاجرون يستقرون بالحبشة حتى سارت إليهم شائعة بإسلام قريش، فقفلوا راجعين إلى مكة فى شوال من نفس العام، وما تبينوا الحقيقة إلا بعد ساعة من نهار فى مكة. واشتد تعذيب المشركين لهم، فكانت هجرتهم الثانية رغم يقظة المشركين، وشدة حذرهم. وبلغ عددهم فى هذه المرة ثلاثة وثمانين رجلاً وثمان عشرة أو تسع عشرة امرأة، لكن أنى لنار قريش أن يهدأ أوارها، لقد عز عليها أن تعلم أن المسلمين قد وجدوا مأمنًا يعبدون فيه ربهم، فكانت مكيدتها بإرسال رسولين إلى الحبشة لاستردادهم من النجاشى، وقد خاب سعيهم، وبطل مكرهم، ورد النجاشى رسولى مكة دون أن يقضى لهما حاجة، بل أعلن إيمانه بما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، أما هؤلاء المهاجرون، فقد مكثوا بالحبشة، حتى مكن الله لنبيه بالمدينة، فعادوا إليها، وكان آخرهم عودة جعفر بن أبى طالب بعد فتح خيبر.
- تقوية شوكة المسلمين : كلما زاد الليل ظلمة، وكلما اشتدت السماء حلكة، كلما كان ذلك إيذانًا ببزوغ فجر جديد. أبو جهل يمر بالنبى -صلى الله عليه وسلم- عند الصفا فيؤذيه وينال منه، فلا يرد عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، ويأبى المعاند أن يترك محمدًا كريم الخلق يمضى فى طريقه، حتى يضربه بحجر فى رأسه الشريفة؛ فيسيل منها الدم نزفًا، ثم تكون هذه الحادثة الأليمة مقدمة لنهاية سعيدة هى إسلام حمزة بن عبد المطلب. حمية فى بادئ الأمر، ثم إيمان راسخ بعدها. ولا تكاد أيام ثلاثة من شهر ذى الحجة للعام السادس من نبوته -صلى الله عليه وسلم- تمر بعد إسلام حمزة -رضى الله عنه- حتى يلطم عمر بن الخطاب أخته فاطمة على وجهها لطمة شديدة؛ لإيمانها بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فيكون الدم السائل من وجهها سببًا لإيمان ابن الخطاب، وإعلانه شهادة الحق، وفى أيام ثلاثة تتبدل أحوال المسلمين، والدعوة المحبوسة فى دارالأرقم تجد طريقها إلى الكعبة، فى وضح النهار، وعلى مسمع قريش ومرآها، أقدام المسلمين تشق طرقات مكة، فى صفين طويلين، يقدم أحدهما أسد الله حمزة، ويسبق الآخر الفاروق عمر، الذى أبى الاختباء، وأقسم لنبيه -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: والذى بعثك بالحق لنخرجن!، فكان خروج المسلمين وكانت عزتهم. يصف صهيب تلك الحال قائلاً: لما أسلم عمر، ظهر الإسلام ودعى إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقًا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتى به!.
- تجمع بنى هاشم وبنى المطلب: الأفضل عند المواجهة ألا تكتفى بالرد على خصمك، بل تضع نفسك مكانه، لتتنبأ بما ينوى أن يصنعه، فتبادره قبل أن يسبقك. هكذا تعلم أبو طالب من بيئته الصحراوية المتقلبة، والرجل العاقل الحريص على ابن أخيه استقرأ الأحداث، فوجد قريشًا قد وصلت مع محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى طريق مسدود، ولم يعد أمامها إلا قتل محمد، رضى أبو طالب بعد ذلك أم سخط، ثم إن أحداثًا متعاقبة صارت تؤكد لديه حدسه، فالمشركون هددوه بالمنازلة، وساوموه على قتل ابن أخيه مقابل إعطائهم ابن الوليد له يربيه ويتخذه عوضًا، ثم محاولة أبى جهل رضخ رأس النبى -صلى الله عليه وسلم- بحجر ألقاه، ومحاولة عدو الله عقبة بن أبى معيط خنقه بردائه، وخروج عمر -قبل إسلامه- بسيفه عازمًا ذبح محمد- كل هذه الأحداث تؤكد لأبى طالب أن المشركين لن يأبهوا لجواره وذمته. وهنا لم يبق لأبى طالب إلا المبادرة والحزم، فجمع أهل بيته من بنى هاشم وبنى المطلب ولدى عبد مناف، ودعاهم إلى منع ابن أخيه والقيام دونه، فأجابه إلى ذلك مسلمهم وكافرهم، حمية للجوار العربى، وأدخلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى شعبهم، منعًا له ممن أراد قتله، فأسقط فى يدى قريش، ولم يبق أمامها إلا إعلان المقاطعة العامة.
- المقاطعة العامة: الأحداث فى مكة صارت متلاحقة، حمزة يدخل الإسلام، ولا تكاد أيام ثلاثة تمر حتى يتبعه عمر، والمسلمون يخرجون فى طرقات مكة، يعلنون عن إيمانهم، وقريش تتنازل عن بعض كبريائها وتذهب إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لتساومه، لكن النبى -صلى الله عليه وسلم- يردها خائبة، ثم يعلن أبو طالب جمعه لبنى هاشم وبنى عبد المطلب على نصرة محمد، والرسول يدخل فى شعبهم احتماء من كيد قريش. إن سرعة الأحداث وتعاقبها فى فترة وجيزة، لا تتجاوز الأسابيع الأربعة تنبئ بحدث جلل، لم يلبث حتى أسفرت عن وجهه الأيام، فقد هدى قريشًا شيطانها إلى كتابة صحيفة علقت بالكعبة؛ لمقاطعة بنى هاشم وبنى المطلب مقاطعة تامة تفضى إلى هلاكهم، وصبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون، ومعهم بنو هاشم وبنو المطلب مسلمهم وكافرهم فى شعب أبى طالب، إلا أبا لهب، فإنه ظاهر قريشًا على رحمه، وذلك من ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة، ولمدة ثلاث سنين متصلة، حتى منّ الله تعالى عليهم، ونقضت الصحيفة الظالمة، القاطعة للرحم.
- آخر وفد قريش إلى أبى طالب: أحداث جسيمة مرت بأبى طالب فأثرت فيه، وقد جاوزت سنه الثمانين، وكان آخر هذه الأحداث المقاطعة القاسية، والتى هتفت بالمرض، فألح على الشيخ الكبير يلاحقه، ورأت قريش أن أبا طالب سائر إلى منيته على عجل وخشيت أن تفتك بمحمد -صلى الله عليه وسلم- بعد موته، فتعيرها العرب بجبن صنيعها، إذ تركته حين أحاطه عمه، ثم انتهشته حين ولى عنه، فأجمعت رأيها أن تذهب إليه فتعيد مساومته، حتى تصل مع محمد إلى حل وسط. وبجوار فراش أبى طالب حكمت قريش سيدها الذى حاصرته حتى قريب وأنهكت عافيته- حكمته بينها وبين محمد، فاستدعى أبو طالب ابن أخيه، ليرى رأيه فى قول قريش، فسمع منهم النبى، ثم أجابهم قائلاً: أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها، ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم؟. فتعجبوا من قوله وتحيروا، حتى أجابه أبو جهل قائلاً: ما هى؟، وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها!، فقال لهم النبى: تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه؛ فصفق القوم بأيديهم، ثم قال: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟، إن أمرك لعجب!. ومضوا إلى ديارهم، وقد علموا -من جديد- أنه لا سبيل إلى المساومة مع هذا النبى الثابت على مبادئه.
- عام الحزن: تعاقب المسرات والأحزان، وتتابع اليسر والعسر، سنة من سنن الحياة، والعام العاشر للنبوة وقد شهد فجره سعادة المسلمين ونبيهم -صلى الله عليه وسلم- بخروجهم من الشعب، ونقض صحيفة البغى التى خطتها قريش، ولم يلبث -هذا العام- أن دارت أيامه وتوالت، فأظهرت من الحوادث ما آلم النبى -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين جميعًا. أما أول هذه الحوادث فكان وفاة أبى طالب عم النبى -صلى الله عليه وسلم- ودرعه الذى يتقى به كيد قريش، وأما ثانيها: فكان وفاة السيدة خديجة -رضى الله عنها-، زوج رسول الله، وشريكة كفاحه، وراعية بيت النبوة. وكما كانت هاتان الحادثتان مصيبة رزء بها محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقد كانتا أيضًا باب شر على من آمن معه؛ تجرأت قريش على المسلمين، حتى التجأ أبو بكر إلى الهجرة من مكة، وما رده إلا ابن الدغنة، إذ أدخله فى جواره، ونالت قريش من النبى -صلى الله عليه وسلم- ما لم تنله فى حياة أبى طالب، وبلغ فجورها أن يعترضه سفيه من سفهائها، فينثر التراب على رأسه، ويقول الكريم لابنته -وهى تغسله عنه وتبكى-: لا تبكى يا بنية، فإن الله مانعٌ أباك. ولتتابع هذه الأحزان سمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا العام بعام الحزن، وقد شهد شهر شوال من هذا العام زواج النبى بالسيدة سودة بنت زمعة، رضى الله عنها وأرضاها، ولعل هذا الزواج كان نسمة باردة طيبة فى قيظ العام العاشر للبعثة
الدعوة خارج مكة(الجزء الأول): أبت الدعوة أن تظل حبيسة فى مكة. وما يدفعها لذلك؟، ألم تصل إلى كل أذن لقريش، أليست هى دعوة رب العالمين للعالمين؟، أليست هى دعوة للإنسان -كل إنسان- على الأرض حتى تقوم الساعة؟، فما يبقيها فى مكة بعد الآن؟. مكثت الدعوة فى مكة عشر سنين، آمن فيها من آمن، وكسل فيها من كسل، وآن للنبى -صلى الله عليه و سلم- الذى كلف بحمل الدعوة للناس أن يحمل هذا النور خارج مكة، وإلى الطائف كانت رحلته الأولى. وحول الكعبة عرض الإسلام على القبائل منتهزًا أيام الحج، وما كان يتحرك للجمع فحسب، بل كان يحركه الفرد، فيأتيه ويدعوه، وبدين الله يعرفه، وظل كذلك حتى أتته البشرى، نسمات من يثرب ست أضحت بعد أن دُعِيَت، تسعى فى نور الحق، وفى هذا العام: الحادى عشر للنبوة، تزوج النبى -صلى الله عليه وسلم- عائشة ابنة صِدِّيقه أبى بكر، وفى هذه المرحلة، وضوء نجاح الدعوة يشرق حينًا ويخبو حينًا آخر أسرى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماء، تثبيتًا لفؤاده، وتبشيرًا لأتباعه، وفى العام الثانى عشر للنبوة أثمرت بشرى يثرب وفدًا بايع الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمنى بيعة العقبة الأولى، وفى العام التالى كانت بيعة العقبة الثانية، وهكذا أصبح للإسلام وطنٌ فى أرض العرب يأوى إليه، فكان إذن النبى -صلى الله عليه وسلم- للمؤمنين بالهجرة إلى يثرب. وشعرت قريش أن زمام الأمر قد أفلت من بين يديها، وفى دار الندوة كان الكيد، ولقتل محمد كانت مؤامرة قريش، لكن الله يحفظه، ومن فوق العرش نجَّاه، وإلى يثرب كانت هجرته، هجرة رجل حمل الحق فخرج من داره، لكن مدينته المنتظرة، وقلعته المنصورة، كانت فى استقباله.
- الرسول -صلى الله عليه وسلم- فى الطائف: لم يكد عام الحزن -العام العاشر للبعثة- يشارف على نهايته حتى أظهرت صفحاته حادثة أليمة أخرى كانت تنتظر النبى -صلى الله عليه وسلم-، فدور مكة التى أوصدت أبوابها دون دعوته، وسفهاؤها الذين صاروا يتجرؤون عليه بعد وفاة عمه أبى طالب، وكبراؤها الذين كاشفوه العداوة والبغضاء، وتطاولوا على ضعاف المسلمين- كل ذلك قد دفع الرسول أن يلتمس النصرة خارج مكة، وإلى الطائف كان المسير، حيث قطع النبى -صلى الله عليه وسلم- ستين ميلا متوجها إليها على قدميه، معه مولاه زيد بن حارثة فى شوال من العام العاشر للنبوة، فمكث فيها عشرة أيام يدعو أهلها، فردوا عليه دعوته، وأساءوا وفادته، ولم يتوقفوا عند هذا الحد، بل تطاولوا عليه، وآذوه فى رحلة عودته. وعاد النبى -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة، وبلغ مشارفها فسأله زيد معجبًا: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟، فأجابه الرسول -صلى الله عليه وسلم- مطمئنًا: يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجًا ومخرجًا. إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- الذى أنهكت جسده أحداث هذه الرحلة العصيبة، ظل قلبه وعقله يحلقان بعيدًا يلتمسان الهدى من السماء، ويستشرفان المستقبل لهذا الدين الجديد، لا يفت فى عضده شىء، ولا يوهن من عزيمته أحد، ولا يحنى من قامته إيذاء أو حادث. كيف؟!، وربه حسبه ونعم الوكيل. والتمس محمد -صلى الله عليه وسلم- الجوار فى مكة، حتى أجيب إلى ذلك، فدخل فى جوار المطعم بن عدى.
- عرض الإسلام على القبائل: محمد -صلى الله عليه وسلم- رسول الله ليس إلى قريش خاصة، بل إلى العالمين كافة؛ ولهذا السبب فإن قدمى محمد -صلى الله عليه وسلم- دأبتا على السعى بين قبائل العرب؛ ليدعوهم إلى الإسلام، منتهزًا فرصة موسم الحج، أما فى هذا العام -العام العاشر للنبوة- فقد أصبح للنبى من دعوتهم هدف جديد، تمثل هذا الهدف فى طلب صريح للحماية من القبائل العربية، حتى يتمكن من تبليغ دعوة الله -عز وجل-. ومن هذه القبائل التى دعاها -صلى الله عليه وسلم- فى هذا العام: بنو كلب، وبنو عامر، وبنو شيبان بن ثعلبة، وبنو حنيفة الذين أتاهم فى منازلهم فدعاهم، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه ردًا منهم.
- عرض الإسلام على الأفراد خارج مكة: الناس فى ميزان الرجال ليسوا سواء، وإن كان إبراهيم -عليه السلام- أمةً كما وصفه ربه، فإن دونه رجال قد يوزن الواحد منهم بقبيلةً أو أكثر، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذى كان يقصد القبائل فى موسم الحجيج، لم يكن يفوته أن يأتى رجالاً بأعينهم، أو أن يجلس إليهم إن هم بادروه، ومن هؤلاء الرجال الذين لبوا نداء الحق حين سمعوه فى زيارتهم لمكة: سويد بن صامت، وإياس بن معاذ، وأبو ذر الغفارى، وطفيل بن عمرو الدوسى، وضماد الأزدى.
- بشرى من يثرب: فى سكون الليل وظلمته، وبينما أوى أهل مكة وحجيج العام الحادى عشر للنبوة إلى فرشهم نائمين، إذ كان هناك فريقان لم يزر النوم عيونهم اليقظة. أما الفريق الأول فستة من شباب الخزرج، ممن ذكرهم موسم الحج بنبوءة جيرانهم وحلفائهم من يهود يثرب، بأن نبيًا من الأنبياء مبعوثًا فى هذا الزمان سيخرج فتتبعه يهود ويقتلون معه العرب قتل عاد وإرم، ثم أقض مضجعهم أيضًا ما تركوه بيثرب من حرب أهلية بينهم وبين بنى عمهم من الأوس، أكلت الأخضر واليابس، وأنهكت قواهم، وذهبت بها؛ فأخذوا يتحدثون فيما بينهم حديثــًا سرى فى هدوء الليل، وتسلل إلى آذان الفريق الثانى: محمد -صلى الله عليه وسلم- النبى الشغوف بدعوته وصاحبيه أبى بكر، وعلى، فقصدوا إلى شباب الخزرج وسألهم النبى: من أنتم؟، قالوا: نفر من الخزرج، فقال: من موالى يهود؟ -أى من حلفائهم-، فقالوا: نعم، فعرض عليهم -صلى الله عليه وسلم- الإسلام ودعاهم إلى الله وحده، وتلا عليهم القرآن فتفجرت ينابيع الحق من قلوبهم النقية، وأنفسهم الظمأى إلى حلاوته، وأسرعوا يقولون لبعضهم البعض: تعلمون والله ياقوم إنه النبى الذى توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه. وأسلموا على يديه -صلى الله عليه وسلم- ثم قالوا له: إنا قد تركنا قومنا ولاقوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك. ورجع هؤلاء المسلمون الجدد إلى بلدهم حاملين رسالة الإسلام، حتى لم تبق دار من دورها إلا وفيها ذكر محمد. وهكذا شاء من جعل سجن يوسف المظلم طريقًا لظهور الحق وعلوِّ الشأن، أن تكون هذه الليلة التى رآها المسلمون مظلمة؛ لضياع قوتهم، وقلة حيلتهم، وانصراف القبائل عن دعوته- أن تكون طريقًا أيضًا لظهور الحق وعلوِّ الشأن، وسبحان من قال: (لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا).
- زواجه-صلى الله عليه وسلم- من عائشة: يبدو أن العام الحادى عشر للبعثة يحمل بشرى جديدة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمع بشرى يثرب التى كانت تقدمة لدولة جديدة للمسلمين بالمدينة، صارت هناك بشرى أخرى، وهى زواجه -صلى الله عليه وسلم- فى شوال من هذه السنة بعائشة الصديقة بنت صاحبه أبى بكر، والتى كانت تقدمة لبداية جديدة لبيت النبوة بالمدينة. فقد بنى بها -صلى الله عليه وسلم- بعد ثلاث سنين فى شوال فى السنة الأولى من الهجرة.
الدعوة خارج مكة(الجزء الثاني):
- الإسراء والمعراج: ها هى البشارات تتوالى، والانتصارات تتعاقب فى دأب شديد! ولئن بدا الرسول -صلى الله عليه وسلم- مهزومًا فى عالم الشهادة، فلقد غدا منصورًا فى عالم الغيب، الجن تؤمن به -فى رحلة العودة من الطائف- حين كفر الناس، وأبواب السماء تفتح له، حين أغلقت فى وجهه أبواب الأرض. أسرى برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجسده من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكبًا على البراق، بصحبة جبريل -عليه السلام-، وبالمسجد الأقصى حيث أبناء إبراهيم من ولده إسحاق -عليهم السلام-، صلى محمد بالأنبياء إمامًا وكأن ذلك إيذان بانتقال النبوة من ولد إسحاق إلى ولد إسماعيل -عليهما وعلى أبيهما السلام-، ثم عرج به -صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات العلا حيث توالت رؤيته للآيات العجيبة، وأمام ربه -عز وجل- كان فرض الصلوات الخمس، فلما أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى قومه أخبرهم بما أراه الله -عز وجل-، فكذبوه وآذوه، فساق لهم من دلائل صدقه ما يقنع عقولهم السقيمة، غير أنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور.
- بيعة العقبة الأولى: إن النبتة التى غرسها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده فى موسم الحج فى السنة الحادية عشرة للنبوة، قد اشتد عودها، حتى جاء فى الموسم التالى اثنا عشر رجلاً، خمسة من الستة الذين قابلوه فى العام الماضى، وسبعة جدد، جاءوا يبايعون الرسول -صلى الله عليه وسلم- عند العقبة بمنى، بيعة كبيعة النساء يوم فتح مكة -أى على الإيمان والطاعة-، دون حرب أو قتال، وقد بعث النبى -صلى الله عليه وسلم- معهم شابًا من السابقين إلى الإسلام هو مصعب بن عمير العبدرى؛ ليعلم من أسلم بيثرب شئون دينهم، ويدعو بها من لم يسلم بعد، وقد بارك الله فى سفارة مصعب، وكان يعرف بالمقرئ، وآمن بدعوته أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ سيدا قومهما من بنى عبد الأشهل، وقصة إسلامهما تنبئ بحكمة مصعب ودماثة خلقه، وقد أقام مصعب فى دار أسعد بن زرارة يقوم بما انتدب له بجد وحماس حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، فقد وقف بهم عن الإسلام قيس بن الأسلت الشاعر حتى عام الخندق العام الخامس للهجرة. ولم يأت العام المقبل: العام الثالث عشر للنبوة إلا ومصعب قد عاد إلى مكة، يزف إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشائر الفوز، وبوارق الأمل، فى قبائل يثرب، وما بها من خير ومنعة.
- بيعة العقبة الثانية: الله أكبر!! موسم الحجيج للعام الثالث عشر من النبوة يسفر عن غرس محمد -صلى الله عليه وسلم- وقد استغلظ واستوى على سوقه، وفد يثرب يقدم قاصدًا مكة وبين صفوفه ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان ممن أسلم وآمن بالدين الجديد، لا ينهزهم إلا شوقهم للقيا نبى الله -صلى الله عليه وسلم-، ومبايعته على النصرة وتحت جناح الليل، وبعد مضى ثلثه الأول، كان التسلل خفية، للقاء الموعود، عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى، حسب الاتفاق المضروب، وبينا هم كذلك إذ طلع عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه العباس عمه -وهو بعد على دين قومه-، أما أبو بكر وعلى فقد وقف كل منهما عينًا على الطريق؛ لحراسة الاجتماع السرى، وقبل أن يسرد النبى -صلى الله عليه وسلم- بنود البيعة أكد العباس على خطورتها، وبعد أن سردها فقد كرر التأكيد على خطورة البيعة، الأنصاريان السابقان: العباس بن عبادة، وأسعد بن زرارة، لكن الأنصار الذين عرف الإسلام طريقه إلى قلوبهم، ما كادوا يستمعون إلى قولهما حتى بادروا إلى مصافحة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلين: والله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها. وبعد أن تمت البيعة، قام الأنصار تنفيذًا لطلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باختيار اثنى عشر نقيبًا، حتى إذا تمت البيعة، اكتشف شيطان المعاهدة فصاح على قريش يستفزهم، وسعت قريش لمطاردة المبايعين؛ لقتل حركة تعلم جيدًا شدة خطورتها، لكن الله سترهم، ولم تظفر قريش إلا بسعد بن عبادة الذى أجاره المطعم بن عدى، والحارث بن حرب بن أمية، فعاد سالمًا إلى ركبه، وعاد الجمع الميمون إلى المدينة ينشرون دعوة الله، ويهيئون يثرب لإقامة دولة الإسلام الأولى فى الأرض، ويستعدون لاستقبال المهاجرين، ونبيهم -صلى الله عليه وسلم-.
- الهجرة إلى يثرب: كانت بيعة العقبة الثانية أخطر انتصار حققته الدعوة منذ ولادتها، فقد صار لها اليوم حصن ووطن، وسط صحراء العرب الواسعة، وكما أدرك هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسرع فى إرسال المسلمين إلى يثرب ليبادروا إلى تأسيس المجتمع الجديد بها، فإن قريشًا قد انتبهت لذلك أيضًا، فأخذت تحول بينهم وبين الهجرة، وفى ظل هذا المناخ القلق كان المسلمون يلوذون فرارًا إلى يثرب، لا يحملون معهم سوى إيمانهم بالله ويقينهم به، مخلفين وراءهم بيوتهم وأموالهم، وتجارتهم ومصالحهم، بل بعض أهليهم فى العديد من الأحيان. وإن هجرة كهجرة أبى سلمة وزوجته، وكهجرة صهيب الرومى، أو هجرة عياش بن أبى ربيعة، لتوضح لنا ما كان المسلمون يلاقونه من كيد قريش حتى يمنعوهم من الهجرة، لكن عناية الله ورحمته حالت دونهم وما يبغون، فما مضى بعد بيعة العقبة إلا شهران وبضعة أيام حتى لم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله، وأبو بكر، وعلى -أقاما بأمره لهما-، ومن احتبسه المشركون كرهًا.
- مؤامرة قريش: إن الخطر الذى كانت تراه قريش بعقلها حين تفكر فى أمر هذه الدعوة قد أخذ يتجسد الآن بعد هجرة المسلمين إلى يثرب، حتى صارت تراه حقيقة بعيونها المندهشة!، ولئن هى صبرت على محمد -صلى الله عليه وسلم- دون أن تغمد فى صدره سيفها فيما مضى احترامًا لأبى طالب، أو إبقاءً على ود بنى هاشم، أو إجلالاً لجوار المطعم بن عدى، فإن ما يحدث بيثرب الآن يدفعها دفعًا؛ لتجهز على هذا النبى قبل أن يلحق بأتباعه، فلا تستطيع رد سهم قد نفذ. واجتمعت فى دارالندوة فى السادس والعشرين من صفر سنة أربع عشرة من البعثة وجوه قريش الممثلة لكافة بطونها، وظلوا يتدارسون بينهم خطة الإجهاز على نبى الله -صلى الله عليه وسلم- وانتهت المشاورة إلى أخبث خطة لقتل من أرسل رحمة للعالمين... محمد -صلى الله عليه وسلم-.
- هجرة النبى -صلى الله عليه وسلم-: "على رسلك فإنى أرجو أن يؤذن لى". هكذا كانت إجابة النبى -صلى الله عليه وسلم- لأبى بكر حين تجهز للهجرة إلى المدينة، وما إن علم الصديق بذلك حتى حبس نفسه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ ليصحبه، وعلف راحلتين بذلك استعدادًا للهجرة المرتقبة، وفى السابع والعشرين من صفر للسنة الرابعة عشرة من النبوة جاء الأمر بالهجرة من الله -عز وجل- إلى رسوله الكريم، فانطلق فى الظهيرة إلى صاحبه أبى بكر، متقنعًا؛ ليخبره الخبر، ثم رجع -صلى الله عليه وسلم- بعد أن أبرم الخطة مع صديقه إلى بيته ينتظر مجيئ الليل، أما مشركو مكة فقد تعجلوا تنفيذ مؤامرتهم الدنيئة، وقاموا بتطويق المنزل، حتى يغمدوا فى صدره الشريف سيوفهم إذا أرخى الليل أستاره، لكن رافع السماوات بغير عمد، مالك الملك، ومدبر الأمر -سبحانه وتعالى-، جرت مشيئته بأن يغادر الرسول بيته، ثم يلحق بأبى بكر؛ ليتحركا إلى غار ثور، وفى الغار كان اختباؤهما عن عيون قريش، التى جن جنونها، وأسرعت فى مطاردة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولما أعجزها الطلب؛ رصدت مكافأة ضخمة لمن يأتى لها بالمهاجرين حيين أو ميتين، فاجتمع عليه -صلى الله عليه وسلم- مع مطاردة قريش مطاردة سراقة بن مالك أيضًا. ومضى النبى -صلى الله عليه وسلم- فى حماية ربه وأمنه قدمًا فى الطريق إلى المدينة، وجرت له بها أحداث عديدة، منها: نزوله -صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر فى خيمة أم معبد، التى هنئت بمقدمه المبارك، ومازال الرسول -صلى الله عليه وسلم- يتقدم فى مسيره حتى نزل بقباء، ثم دخل المدينة التى طال اشتياق أهلها لمجيئه وإقامته بها، وبعد أيام من وصوله لحق به أهله -صلى الله عليه وسلم- وأهل أبى بكر، ثم كانت هجرة على -كرم الله وجهه-.
- مطاردة سراقة: فارس مترجل عن فرسه النجيبة، يحمل رمحه، ويسعى خلف رجل أعزل يطلب منه الأمان! والأعزل يسير قدمًا، يتلو قرآن ربه، ولا يلتفت إليه! تلك هى الصورة التى نقلتها لنا كتب السيرة لفارس بنى مدلج: سراقة بن مالك بن جعشم، حين خرج يطارد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه الصديق طامعًا فى مكافأة قريش، فعاندته فرسه وغاصت قوائمها فى الرمل مرارًا، حتى علم أن محمدًا وصاحبه ممنوعان، وأعطى محمد -صلى الله عليه وسلم- سراقة الأمان، كتابًا خطه عامر بن فهيرة، ليحتفظ به سراقة، سراقة الذى بدأ يومه محاربًا للنبى -صلى الله عليه وسلم-، ثم أنهى هذا اليوم مدافعًا عنه، بتضليل المطاردين له، وصرفهم عن هذا الطريق.
- فى الطريق إلى المدينة: ثلاثة أيام مرت على النبى -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه فى الغار حتى هدأت المطاردة، ثم خرجا بعدها ليبدءا رحلتهما إلى المدينة بصحبة دليلهما عبدالله بن أريقط، الذى كان على دين قريش، وكانا قد عهدا إليه براحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، وصحبهما أيضًا عامر بن فهيرة مولى أبى بكر، وأتتهما أسماء بنت أبى بكر بطعامهما، ثم تحرك الركب جنوبًا باتجاه اليمن، فغربًا نحو الساحل ثم شمالاً بمحاذاة الساحل، فى طريق لا يسلكه أحد إلا نادرًا، وكان الصديق خلال الرحلة يفرغ وسعه لراحة النبى -صلى الله عليه وسلم- وأمنه، فإذا سأله أحد: من هذا الرجل الذى بين يديك؟، أجابه: هذا الرجل يهدينى الطريق؛ حتى يخفى حقيقة النبى -صلى الله عليه وسلم- طلبًا لسلامته، ودون أن يكذب، وفى الطريق كانت هناك مفاجأة كبيرة تنتظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه: تلك هى اعتراض بريدة بن الحصيب الأسلمى لهما طمعًا فى مكافأة قريش، لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعاه إلى الإسلام، فأسلم من فوره مع سبعين رجلاً من قومه، ونزع عمامته، وعقدها برمحه، فاتخذها راية تعلن بأن ملك الأمن والسلام قد جاء ليملأ الدنيا عدلاً وقسطًا، وكانت فرحة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا النصر الجديد كبيرة، إذ بإسلام بريدة الذى كان سيد قومه دخلت قبيلة أسلم فى الإسلام، وصارت قاعدة إسلامية جديدة على الطريق بين مكة والمدينة، ولقى النبى -صلى الله عليه وسلم- فى الطريق أيضًا الزبير، وهو فى كرب من المسلمين،
موضوع: رد: سلسلة سيرة المصطفى علية الصلاة والسلام الأربعاء 11 أغسطس - 7:30:40
تابع
غزوة بدر الكبرى: قلة من المؤمنين ساقهم الله تعالى لملاقاة الكثرة من المشركين المتكبرين، حتى إذا وافوهم لم يلبثوا إلا يسيرًا، ثم نصرهم الله بقدرته عليهم، تلك كانت قصة بدر! القصة التى مهما قلبت صفحاتها طالعتك قدرة الله، وتدبيره لعباده، حين تتأمل سبب الغزوة، أو قوة الجيش المسلم وتنظيمه، وإذا صحبتهم فى الطريق إلى بدر أو استمعت إلى النذير فى مكة، أو رأيت تجهز المشركين للغزو، وتحرك جيشهم، وانفلات عيرهم، وانشقاق جيشهم، فى كل ذلك ستجد حتمًا قدرة الله وتدبيره!. إن مشاهد بدر المتتالية تغرس اليقين فى قلب المسلم، وتورثه صدق التوكل على ربه، توكلاً لاينافيه أخذه بالأسباب، إن هذه المعانى تتسارع إلى قلوبنا ونحن نشاهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- يستشير صحابته قبل الغزوة، ثم حين يقوم بالاستكشاف لمعركته، وتتسارع إلى قلوبنا ونحن نستمع إلى صوت نزول المطر قبيل المعركة، أو ونحن نرى نشر القوات وتهيئة مكان القيادة، ثم حين نستمع إلى صوت القيادة، ثم حين نستمع إلى كلمات المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وهو يقوم بالتعبئة المعنوية، وكذلك حين نولى وجهنا شطر الجانب الآخر فنلحظ الخلاف وقد تجدد فى صفوف المشركين، لكن الأعجب من ذلك كله، هو دقات قلوبنا التى لا زالت بعد أربعة عشر قرنًا من هذه الحادثة تتلاحق وهى تتابع ترائى الجيشين، وقدوم ساعة الصفر، ثم المبارزة الأولى قبل الهجوم العام، ومناشدة الرسول ربه عز وجل، والهجوم المضاد، وانسحاب إبليس من المعركة، ثم الهزيمة الساحقة، ونهاية المعركة. إن مشاهد هذه الغزوة لا تسأم منها قلوب المؤمنين أبدًا، وإن صورة مكة وهى تتلقى أنباء الهزيمة، والمدينة وهى تتلقى أنباء النصر، ثم تستقبل عودة النبى -صلى الله عليه وسلم- وجيشه إليها لترسم فى مخيلتنا نهاية حلقة من حلقات الصراع بين الحق والباطل، أما قضية الخلاف فى الغنائم، وقضية الأسرى، فتؤكدان بشرية حملة ذلك الحق، وحاجتهم الدائمة للتربية والتوجيه. - غزوة أحد: لم يكد يمر على يوم بدر سوى عام حتى كانت قريش التى احترقت كمدًا على هزيمتها وقد أخذت أهبتها واستعدت لقتال محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن معه، فأعدت جيشًا عرمرمًا أخذ طريقه متجهًا إلى أحد، وما كاد الجيش يخطو أولى خطواته خارج مكة حتى كان خبره قد انكشف لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، واستعد المسلمون لهذا الطارئ الخطير، وشاورهم النبى -صلى الله عليه وسلم- فى أمرهم، ثم بدأ تنظيم جيش لهم يدرأ عنهم خطر جيش قريش، والتفت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جيشه فوجد به جمعًا من صغار السن صحبوا الجيش لفرط حماسهم فردهم النبى -صلى الله عليه وسلم-، والعجيب أن هذه الصورة المشرقة قد تليت بضدها تمامًا، فقد تمرد المنافقون، وعاد زعيمهم ابن أبى بثلث الجيش إلى المدينة، وواصل الجيش مسيره حتى بلغ أحدًا، وأعد النبى -صلى الله عليه وسلم- خطة الدفاع، ثم قام بالتعبئة المعنوية لجنوده، وعلى الجانب الآخر كان المشركون يعبئون جيشهم، ثم أخذوا ينسجون مؤامرات لإحداث الفرقة فى جيش المسلمين، إلا أن خيوطها كانت أهون من خيوط العنكبوت، وقامت نسوة قريش بجهدهن استعدادًا للمعركة، وتقارب الجمعان، ثم بدأت أحداث المعركة التى بدأت لصالح المؤمنين، ثم انقلبت ضدهم، أما نهاية المعركة فقد كانت ولا شك ملحمة وحدها أثبتت نفاسة معدن أولئك الرجال الذين عادوا مهزومين من أحد. - غزوة الأحزاب: "الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسيرإليهم"، هكذا كانت كلمات النبى -صلى الله عليه وسلم- بعد ذهاب الأحزاب وجلائهم عن المدينة، وهكذا كانت بشارته. بدأت الغزوة بمكيدة يهودية دنيئة، تجمع المشركون من قريش والعرب على إثرها، وتوجهوا لمهاجمة المدينة، وعلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنيتهم، فاجتمع بمجلس شوراه ليحسم أمره، وهناك كانت المشورة بحفر الخندق، وتحمل المسلمون مواجهة المشاق لإتمام حفره، والتغلب على تثبيط المنافقين، ووصلت جموع المشركين الزاحفة لاستئصال المسلمين، ففوجئت بما لم تحسب، فحاصرت المدينة إلى حين، ولم تستطع أن تداهمها، وإن لم يمنع ذلك من حدوث بعض قتال عبر الخندق، وفى هذه الظروف الخانقة فوجئ المسلمون بخيانة يهود بنى قريظة لهم، ومحالفتهم لعدوهم، فأصبح جيش المسلمين فى حرج كبير لانكشاف ظهره، وهنا ساق الله تعالى لهم فرجًا ومخرجًا بحيلة لنعيم بن مسعود فخرجوا من أزمتهم، وبقى الجيش المشرك متربصًا، حتى أجلاه الله -عز وجل- بريح شديدة سخرها عليهم فكانت نهاية المعركة الدفاع عن المدينة(الجزء الثاني): غزوة بنى قريظة: سأل جبريل محمدًا، وقد عاد لتوه من غزوة الأحزاب، فدخل بيت أم سلمة يغتسل: أو قد وضعت السلاح؟، فإن الملائكة لم تضع أسلحتهم. وأمره أن يتقدم بالمسلمين؛ ليحسم أمر بنى قريظة. وفى دقائق معدودة كان الجيش المسلم يتحرك إلى ديارهم، ثم يحاصرهم فى ديارهم، وزلزل الله الأرض من تحت أقدامهم، وقذف فى قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم النبى -صلى الله عليه وسلم-، الذى وكل أمرهم إلى سعد بن معاذ؛ ليحكم فيهم، وحكم سعد فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات كما قال النبى، فتم تنفيذه على الفور، وانتهت الغزوة بتخلص المسلمين من مدبرى الفتن، ومتصيدى فرص الضعف، ثم تليت بوفاة سعد وتوبة الله على أبى لبابة، الصحابى الجليل. وقد وقعت هذه الغزوة فى شهر ذى القعدة للعام الخامس الهجرى. وقعة الحديبية: إن وقعة الحديبية -التى تمثل فاصلاً لمرحلة جديدة فى السيرة النبوية- قد بدأت برؤيا للنبى -صلى الله عليه وسلم-، أنه يعتمر مع أصحابه، وما إن أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- صحابته بذلك، حتى شرع المسلمون فى التحرك إلى مكة، ولم تقبل قريش بادئ الأمر فكرة أن للمسلمين كغيرهم الحق فى زيارة البيت، فتجهزت للصد عن المسجد، ومحاربة النبى ومن معه، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- وقد خرج معتمـرًا لا محاربًا، قام بتبديل الطريق وتجنب اللقاء، ورأت قريش أن تلجأ للمفاوضات؛ لصرف النبى -صلى الله عليه وسلم- ومن معه، فتتالت وساطات بديل بن ورقاء، ومكرز بن حفص، والحليس بن علقمة، ثم وساطة عروة بن مسعود، لكن دون جدوى، وهنا عنّ لفتية قريش أن يقوموا بمحاولة طائشة لإنهاء هذا الأمر بالقوة، غير أن المسلمين أعادوهم بخفى حنين، ثم بعث النبى -صلى الله عليه وسلم- عثمان بن عفان سفيرًا إلى قريش، فاحتبسته قريش، وأشيع أنه قتل، فما كان من النبى -صلى الله عليه وسلم- إلا أن بايع من معه على القتال حتى الموت، فى بيعة سميت ببيعة الرضوان، وأسرعت قريش بفض هذه الأزمة، وبإرسال سهيل بن عمرو وسيطًا جديدًا بينها وبين محمد -صلى الله عليه وسلم-، وتمت المعاهدة، وقبل أن تتم كتابتها، طالب سهيل برد أبى جندل إليه، حسب بنودها، فرده -صلى الله عليه وسلم-؛ لكنه التزامًا بكلمات المعاهدة، أبى أن يرد المهاجرات، وقد حزن المسلمون، وخاصة عمر؛ لشعورهم بفوات العمرة، وانعدام العدل فى بنود المعاهدة، لكنه -صلى الله عليه وسلم- أمرهم بالنحر والحلق، حتى يعودوا، ولقد دارت الأيام لتثبت للجميع مقدار المصلحة فى هذه المعاهدة، وجرى حكم الله -عز وجل- بانتهاء أزمة المستضعفين الذين لم يكن باستطاعتهم الذهاب إلى المدينة حسب الاتفاق الممهور، وقد تليت هذه المعاهدة بإسلام أبطال من قريش، كإشارة ربانية لبداية فجر جديد. مكائد اليهود: دخل محمد-صلى الله عليه وسلم- يثرب فوجد يهودها على صنفين؛ بعضهم شكل تجمعًا كبيرًا مستقلاً، والبعض الآخر ظل أفرادًا داخل قبائلهم المتعددة، وعاهد -صلى الله عليه وسلم- أتباع أخيه موسى -عليه السلام- على الصدق والنجدة والوفاء، حتى يكونوا معه فى أمة يثرب. وحاول اليهود -الذين احترقت أفئدتهم حين أيقنوا بانتقال النبوة إلى ولد إسماعيل- حاولوا أن يفتتوا المجتمع المسلم وهم إن أخفوا ذلك إلى حين فإن بنى قينقاع قد أظهروه بعد نصر المسلمين ببدر، فأجلاهم النبى عن المدينة، وظنت بنو النضير -بعد هزيمة المسلمين بأحد- أنها قاتلةٌ محمدًا، وهمت بذلك، فألحقها المسلمون بأختها خارج أسوار المدينة الوادعة. ومرة أخرى سعت يهود بالغدر حين ألبت الأحزاب لغزو المدينة، ثم أظهرت بنو قريظة الخيانة، حين ظنت أن المسلمين قد انتهى أمرهم، فحالفت قريشًا ومن معها، ولكن الله تعالى نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. فدفعت بنو قريظة ثمنًا فادحًا لخطيئتها الفادحة. ويبدو أن تطهير المدينة لم يعد كافيًا؛ إذ تجمعت رؤوس الفتنة والغدر بخيبر، تنسج بليل المكائد للمسلمين. فذهب إليهم النبى ليحاربهم وجهًا لوجه كما ألف، لا دسًّا وغيلة كما اعتاد الخائنون، ولم يعد إلا ونصرالله يخفق بجناحيه فوق جيشه الميمون. وبعد، فقد بقى اليهود فى دين الله، ودولة المسلمين، أمة من الأمم، لها ما للمسلمين، وعليها ما عليهم، ما بقى أتباعها مسالمين وادعين، أما إن أظهروا الغدر والعداء، فجزاء الغادرين المعتدين فى دين الله صارم قاطع، ليهود أو غيرها!. دور المنافقين: كحية رقطاء كمنت فى شقوق دار آمنة، تنتظر فرصة بليل فتتسلل إلى فريستها الغافلة، عاش المنافقون فى حنايا المدينة، وخالطوا أهلها. وقد ظهر خطرهم بعد بدر، حين لم يجد زعيمهم عبد الله بن أبى قدرة على مواجهة النبى -صلى الله عليه وسلم- بالعداوة؛ فأظهر-ومن معه- الإسلام وأبطنوا غيره. وكان أول ما بدا من هذا المعسكر يوم بنى قينقاع حين أصر ابن أبى على رأيه فى حمايته، وضغط على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى لا يمسهم بسوء، ثم فضح هذا المعسكر بأكمله يوم أحد حين تولوا إلى المدينة، وأبوا المشاركة فى القتال فلجئوا إلى الدس الخفى، وألبوا يهود بنى النضير، ثم حاولوا إشاعة اليأس بين المسلمين يوم الأحزاب، وأثاروا الفتنة بين المهاجرين والأنصار فى غزوة بنى المصطلق، فلما ردهم الله خاسرين، نسجوا قصة الإفك ليطعنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فى زوجه، ويطعنوا المؤمنين فى أمهم عائشة، وأمعن المنافقون فى غيهم حين اتصلوا بيهود خيبر يحذرونهم من خروج المسلمين إليهم، لكنهم افتضحوا مرة أخرى فى غزوة تبوك حين احتالوا لبناء وكر لدسهم ومؤامراتهم زعموا أنه مسجد لله وعبادته، ثم هموا بما لم ينالوا وحاولوا قتل المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وهو فى طريق عودته من تبوك، وقدم إليه المخلفون منهم يعتذرون إليه بعد عودته؛ لكن الله سبحانه وتعالى أنزل آيات بينات تظهر نفاقهم، وتعلن طويتهم، وتحذر المسلمين منهم؛ فعادوا بالذلة والهوان المهادنة: لملك من ملوك الأرض تغدو الهدنة فرصة للراحة والاسترخاء، أو فسحة للاستمتاع بطيب العيش وملذات الحكم، أما لنبىٍّ عظيم كمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فإن الهدنة تصبح فرصة؛ لمحاربة ذيول الكفر بعد سكون رأسه، وفسحة لتدعيم أركان الإسلام بدولة المدينة، ودعوةً فى أرجاء الأرض. وهكذا ما إن عقدت الهدنة حتى أخذ النبى الكريم -صلى الله عليه وسلم- فى مكاتبة الملوك والأمراء فى سائر أنحاء الدنيا، وظل الجهاد فى تلك الفترة متصلاً، فقد قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغزوة الغابة أو غزوة "ذى قرد" ثم تلاها بغزوة خيبر، وبفتحها استراح المسلمون من جناحى البغى والكفر: قريش واليهود، ولم يبق أمامهم سوى الجناح الثالث: جناح الأعراب الذين هم أشد كفرًا ونفاقـًا، فبدأ -صلى الله عليه وسلم- فى ربيع الأول سنة سبع من الهجرة بغزوة ذات الرقاع، ثم تلاها بسرايا عديدة طيلة السنة السابعة، حتى كان "ذو القعدة" فاعتمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون معه عمرة القضاء، وما إن عاد إلى المدينة حتى أرسل عدة سرايا إلى أن كانت معركة مؤتة أعظمُ حرب دامية خاضها المسلمون فى حياة النبى -صلى الله عليه وسلم-، وكانت تمهيدًا لفتوح بلدان النصارى، وقد بعث بعدها النبى -صلى الله عليه وسلم- بسرية ذات السلاسل ثم سرية أبى قتادة إلى خضرة. وما إن جاء شهر شعبان سنة ثمان من الهجرة حتى نقضت قريش الهدنة؛ فكان ذلك إيذانًا بفتح الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم-ونصره له بعد سنين طوال، أبت فيها قريش أن تذعن لدين الله، إلى أن طويت هذه الصفحة الأليمة بلا رجعة بفتح مكة المكرمة على يدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين معه، وقبل أن يغادر النبى -صلى الله عليه وسلم- مكة قام بإرسال بضع سرايا، ثم قفل راجعًا إلى مدينته المحبوبة. مكاتبة الملوك والأمراء: ما إن أمن المسلمون حرب قريش، حتى دبت أقدامهم فى أنحاء الأرض، تحمل رسالة رب العالمين إلى العالمين، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلم أن رسائله ستصل إلى قوم، الشكل عندهم يسبق المضمون؛ ولذا فقد اتخذ لنفسه خاتمًا من فضة، جعل نقشه "محمد رسول الله"، وانتقى صلى الله عليه وسلم- من صحابته أهل المعرفة والخبرة؛ ليرسلهم إلى ملوك العالم فسعوا بكتبه إلى النجاشى، والمقوقس، وإلى كسرى، وقيصر، وإلى المنذر بن ساوى، وهوذة بن على، والحارث بن أبى شمر، وكذلك إلى ملك عمان، فأصاب كل من خير الإسلام ما يحسب ما هو أهل له. غزوة الغابة: ركب رباح -غلام رسول الله- فرسًا وأسرع راكضًا إلى المدينة، يسابق الريح، وفوجئ النبى -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون به يخبرهم لاهثًا بأن عبد الرحمن الفزارى قد أغار على أنعام الرسول -صلى الله عليه وسلم- فاستاقها جمـيعًا، بعد أن قتل راعيه، وأن سلمة بن الأكوع يسعى الآن خلفهم وحده. من ناحية أخرى أخذ سلمة يرميهم بنبله فيصيبهم، ويصيب ركائبهم، فإذا رجع إليه فارس منهم، جلس فى أصل شجرة ثم رماه بنبله ليقضى عليه أو يفر. وما زال سلمة يتبعهم بسهامه حتى أجبرهم على ترك كل ما استاقوه من أنعام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم استمر فى ملاحقتهم، فأخذوا يتخلصون مما معهم من الرماح وغيرها؛ حتى تخف أحمالهم فيسرعون المسير، وهنا أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع صحابته، فقتلوا عبد الرحمن الفزارى، وفر من معه مدبرين، ثم رجع الجميع إلى المدينة، وقد غنموا ما ألقى القوم، واستشهد منهم أخرم، قتله عبدالرحمن قبل أن يقتله. غزوة ذات الرقاع: قاد غباء أنمار، أو بنى ثعلبة وبنى محارب من غطفان إلى نهاية سيئة، فقد انتقـوا الوقت المناسب الذى فرغ فيه المسلمون من حرب قريش بصلح الحديبية، ومن حرب اليهود بفتح خيبر؛ ليتجمعوا ويتظاهروا على حرب المسلمين ومحمد!. وعلى العكس من ذلك فإن هذا الوقت -ربيعًا الأول لسنة سبع من الهجرة- كان أنسب الأوقات للمسلمين؛ لتأديب الأعراب قساة القلوب، وكبح جماحهم. فقد أسرع محمد -صلى الله عليه وسلم- فى أربعمائة أو سبعمائة من أصحابه بالخروج إليهم. والأعراب على عكس قريش التى تجمعها مكة، واليهود الذين يلوذون بحصونهم- على عكسهما ليست لهم مقار ثابتة أو منازل مقيمة؛ ولذا فلا يصلح لحربهم إلا حملات الإرهاب والتهديد، ولقد وصل -صلى الله عليه وسلم- إلى موضع يقال له نخل على بعد يومين من المدينة، فلقى جمعًا من غطفان، إلا أنه لم يكن بينهما قتال، والحق أن هدوء معسكرى قريش واليهود لا يعنى أن المسلمين غدوا فى حال يسر ووفرة، بل على العكس من ذلك، فقد روى أبو موسى الأشعرى، أنهم خرجوا لا يجد الستة منهم إلا بعيرًا واحدًا، يتعاقبون عليه، حتى أصيبت أقدامهم، وسقطت أظفارهم، فكانوا يلفون على أرجلهم الخرق، فسميت الغزوة لأجل ذلك بذات الرقاع، ولا شك أن ما قام به المسلمون من الخروج إلى هذه الغزوة لإرهاب عرب غطفان، كان له أبلغ الأثر، فإن غطفان لم ترفع بعد رأسًا، بل استسلمت ثم أسلمت، وشاركت بعض قبائلها فى فتح مكة، ودفعت الصدقة إلى جامعى الصدقات الخارجين من المدينة. معركة مؤتة: مضى الحارث بن عمير الأزدى فى طريقه إلى بصرى، حاملاً كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عظيمها، لكن شرحبيل بن عمرو الغسانى، عامل قيصر على البلقاء من أرض الشام لم يرضه ذلك! فأسر الرسول المسالم وأوثقه، ثم ضرب عنقه بالسيف!! ووصل هذا الخبر إلى المسلمين ونبيهم -صلى الله عليه وسلم- فاشتد ذلك عليهم، إذ أكثر الشعوب همجية تعلم أن الرسل لا تقتل، ولم يعد أمام المسلمين إلا أن ينهضوا فى طلب ثأرهم، وسرعان ما تم تجهيز الجيش، الذى حرص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن يوصيه قبل خروجه، ثم ودع المسلمون جيشهم الذى بدأ تحركه. على الجانب الآخر، قررت الروم أن تجهز جيشًا يناصر شرحبيل فى حرب محمد -صلى الله عليه وسلم-وانضمت قبائل عدة إلى جيشهم ذاك، حتى صار تعداده أضعاف أضعاف تعداد جيش المسلمين الفتح ودخول الناس أفواجًا: أبت بعض القلوب المظلمة أن تفتح أبوابها لنور الحق، الذى سطع فى مكة، وغرها شيطانها؛ فوحدت صفوفها؛ لمقاتلة نبى عز عليها أن ترى انتصاره، وعلو دعوته، فخرج النبى -صلى الله عليه وسلم- لمقاتلتهم فى غزوة حنين، وكما يقولون: فعلى نفسها جنت براقش، ومحارب الله ورسوله، ترى إن لم يرجع بالخيبة، ويبؤ بالخزى والفشل، فبم يرجع، وبم يبوء؟!. وعاد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد هذه الغزوة إلى المدينة منتصرًا؛ ليرسل جامعى الصدقات لمن أسلم من القبائل، و السرايا لمن اعتدى منهم. لكن "أسد الرومان" لم يعجبه استتباب الأمر فى الجزيرة للنبى الجديد ودعوته، وهو يعلم خطره، ونهشة مؤتة لا زالت توجعه، وتنبهه؛ ليترك عرينه، وينقض على غريمه الذى عظم شأنه فى الجوار. أما النبى العظيم -صلى الله عليه وسلم- فهو أشد حرصًا على دعوته من أن يؤتى على غرة؛ لذا فقد بادر بالسعى إليه فى بلده فى غزوة تبوك الشهيرة، والتى ابتليت فيها العزائم، وامتحنت فيها النفوس. ولم تنته السنة التاسعة للهجرة إلا عن بعض الوقائع المهمة، والتى كان آخرها إرسال أبى بكر أميرًا على الحج. ولا شك أن الدعوة بعد فتح مكة قد استقرت أركانها، ورسخت أقدامها؛ ولذا فقد تقاطرت الوفود على النبى -صلى الله عليه وسلم- تدخل فى دين الله أفواجًا، وبقدوم "ذى الحجة" من العام العاشر للهجرة، خرج النبى -صلى الله عليه وسلم- حاجًا حجة الوداع، ثم عاد إلى المدينة ليرسل آخرالبعوث: بعثة أسامة بن زيد إلى أرض الروم، وهى البعثة التى أجل خروجها حتى وفاة النبى -صلى الله عليه وسلم-، وصعود روحه إلى بارئها -عز وجل-، مخلفًا وراءه دولة وأمة، نموذجًا ونبراسًا لمن خلفه، وأمانة وتبعة فى عنق أتباعه، والسائرين على دربه إلى يوم الدين. اللهم صلِّ وسلم على النبى محمد ما بقيت سماء وأرض، حتى تجمعنا معه وتدخلنا مدخله يوم العرض.. آمين. غزوة حنين: لئن كانت القبائل المجاورة لمكة قد خضعت لحكم الله تعالى، فإن غيرها ممن نأت ديارهم، غرهم عقلهم العليل، فقد اجتمعت هوازن، وثقيف، ونصر، وجشم، وسعد بن بكر، وأناس من بنى هلال، واتخذوا من مالك بن عوف السعدى قائدًا عامًا لهم، وأجمعوا رأيهم على قتال محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المسلمين، فبدأوا مسيرهم إليه، تحت إمرة مالك الذى أطاعوه رغم اختلافه مع كبيرهم دريد بن الصمة، وعلى الفور بدأ نشاط الاستخبارات من الجهتين، ثم غادر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة إلى حنين، وتلاقى الجيشان، فكانت الهزيمة الأولى للمسلمين،وكادت أن تذهب ريحهم لولا ثبات الرسول -صلى الله عليه وسلم-، والذى أدى إلى رجوع المسلمين واحتدام المعركة، وما مرت سوى سويعات حتى لحقت الهزيمة الساحقة بجيش العدو، وبدأت المطاردة، لكن الأعراب فروا إلى الطائف فاحتموا بها، فجمع المسلمون الغنائم، ثم ساروا إلى الطائف، حيث بدأ الحصار والقتال حولها، لكنها عصيت عليهم، فقرروا الرحيل عنها إلى حين، وانتظر النبى -صلى الله عليه وسلم- بعض الوقت، ثم قسم الغنائم والتى لم ينل منها الأنصار -على كثرتها ووفرتها -شيئًا، فأحزنهم ذلك، حتى حدثهم النبى -صلى الله عليه وسلم- فرضوا بمقامه بينهم بديلاً، وما كادت قسمة الغنائم تتم حتى قدم وفد هوازن يعلن الاستسلام ويطلب الصلح، فأجابه النبى -صلى الله عليه وسلم- إليه، وأنهى غزوته بأداء العمرة ثم الانصراف إلى المدينة. غزوة تبوك: قيصر الروم الذى بدأ المسلمين بالعداوة، منذ مؤتة، والمسلمون لايقلقونه فحسب، بل يقضون عليه مضجعه، ويثيرون خوفه أيضًا- لقد اكتسحت جموعه قبائل العرب، فوجدوها تحت أمرهم، ودانت لهم الجزيرة العربية بأسرها. ولن تلبث صخرة الروم أن يجرفها سيل المسلمين العظيم، لن ينتظر قيصر إذن حتى تخلع العرب أبوابه، وتحرق عالى أسواره، لقد بدأهم بالمعاداة، وليس له الآن أن يتنكب الطريق!! على الجانب الآخر لم يكن المسلمون ليغفلوا عمن أصبح جارهم، بعد اتساع رقعتهم. كما لم يكن لهم أن ينسوا ثأرهم بمؤتة، فكانوا دومًا فى ترقب وحذر، هو حذر لا يشغلهم عن عدوهم الذى بين أظهرهم، فما زال للمنافقين بالمدينة دور يؤدونه، بل ومسجد على غير تقوى الله يقيمونه، وفى هذا الجو الملبد، وصلت الأخبار باستعداد الروم للحرب، وكره الناس الغزو لاجتماع ظروف عديدة، لكن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ما كان يوقفه عن عزمه شىء، فأعلن التهيؤ لغزو الروم، وتم تجهيزالجيش، الذى بدأ مسيره إلى تبوك، ثم وصل إليها وعسكر بها دون حرب أو قتال، لأن عدو المسلمين لم يبق فى أرض المعركة بعد سماعه بخروج النبى -صلى الله عليه وسلم- ومن معه، وصالح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبائل الشام العربية الموالية للروم على الجزية، ثم رجع إلى المدينة، وهناك كان لقاؤه مع المخلفين الذين تكاسلوا عن الخروج، فذمهم الله تعالى سوى ثلاثة منهم. وقائع مهمة فى السنة التاسعة للهجرة: لم تمض السنة التاسعة الهجرية حتى أظهرت صفحاتها للمسلمين العديد من الحوادث الجسام، فقد توفى النجاشى أصحمة: ملك الحبشة، وصلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الغائب، وتوفيت كذلك أم كلثوم بنت النبى -صلى الله عليه وسلم- فحزن عليها حزنًا شديدًا، وقال لعثمان : لو كانت عندى ثالثة لزوجتكها. وتوفى أيضًا عبدالله بن أبى رأس المنافقين، وقد استغفر له النبى -صلى الله عليه وسلم- وصلى عليه رغم محاولة عمر منعه، ثم نزل القرآن بعد ذلك بموافقة عمر، وفى هذه السنة أيضًا تلاعن عويمر العجلانى وامرأته، كما رجمت الغامدية، التى جاءت فاعترفت على نفسها بالفاحشة، وقد رجمت بعدما فطمت ابنها. الوفود: قد يعشق أصحاب العقل الحق لمنطقه، ويهفو إليه آخرون لما تحسه قلوبهم الصافية من جمال، قد لا يدركه عقل أو منطق، أما غالب الناس فإنهم يظلون يرقبون الحق وهو يقاتل، حتى إذا انتصر وعمّ نوره الآفاق، رأوا ما به من جمال، فأسرعوا يتبعونه على عجل!، وقبائل العرب المختلفة، كانت تتابع ما بين محمد -صلى الله عليه وسلم- وقريش من حرب دائرة، ويحدثون أنفسهم قائلين: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبىّ صادق. فلما رأوا بأعينهم ما منّ الله به عليه يوم الفتح، تتابعت وفودهم المتلاحقة تقف بين يديه، وتعلن أن هدى الله قد دخل قلوبها، واستيقنته سويداؤها! ونذكر من بين ما يزيد على السبعين وفدًا هذه الوفود فحسب: 1- وفد بنى تميم. 2- وفد بنى سعد. 3- وفد بنى زبيد. 4- وفد كندة . 5- وفد أزد. 6- وفد بنى الحارث. 7- وفد جذامة. 8- وفد عبد القيس. 9- وفد دوس. 10- وفد طىء. 11- وفد صداء. 12- قدوم كعب بن زهير. 13- وفد عذرة. 14- وفد بلى. 15- وفد ثقيف. 16- وفد اليمن. 17- وفد همدان. 18- وفد بنى فزارة. 19- وفد نجران. 20- وفد بنى حنيفة. 21- وفد بنى عامر بن صعصعة. 22-وفد تجيب. والحق أن هذه الوفود لم تأت كلها بعد الفتح، بل بعضها قبله قطعًا
آخر أيام النبي - صلى الله عليه وسلم: حجة الوداع: ماذا بقى من رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد أن تمت للإسلام أركانه، وشيد بناؤه، وأقيمت حدوده؟، ماذا بقى بعد أن أصبح للإسلام أمة تجسد بسلوكها مبادئه وتفترش جزيرة العرب بأسرها؟، ماذا بقى سوى أن يلتقى النبى بأتباعه فيأخذ منهم الشهادة على أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ثم يودعهم بنظرة أخيرة؟ ثم أين يكون مكان اللقاء إن لم يكن بمكة بلد الله الحرام؟ وأى مناسبة إذًا أفضل من حج بيت الله حيث اجتماع المسلمين وإقامة الشعيرة التى هفا لها فؤاد المصطفى -صلى الله عليه وسلم؟. إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- الذى ودع معاذًا حين أرسله إلى اليمن قائلاً: يا معاذ، إنك عسى ألا تلقانى بعد عامى هذا، ولعلك أن تمر بمسجدى هذا وقبرى- إن محمدًا خاتم النبيين والمرسلين قد شعر أن رسالته شارفت على نهايتها، وأن خاتمتها صارت قريبة؛ فأعلن للناس بحجة، وتهيأ لها، ثم ارتحل قاصدًا مكة، وبعد أن أقام جزءًا من شعيرته توجه إلى منى، وفوق جبل النور كانت خطبته الخالدة التى حفظتها الصدور، ووعتها العقول، وانطلق -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك إلى المزدلفة، ثم عاد إلى مكة؛ ليتم حجه، ويرجع إلى مدينته المنورة فى ختام رحلته الأخيرة -صلى الله عليه وسلم-. خطبة الحج: يا له من مشهد مهيب! نبى الله الخاتم، يقف خطيبًا فى الناس، وآذان مائة ألف وأربعة وعشرين أوأربعة وأربعين ألفًا من المسلمين ترهف سمعها لكلماته، وعيونهم معلقة به أو متجهة نحوه، وإنه لمشهد عجيب لحجيج العرب، الذين ألفوا التصفيق والضجيج فى عبادتهم لا يسمع بينهم إلا صوت النبى -صلى الله عليه وسلم- أو صوت المبلغ عنه ربيعة -ربيعة بن أمية بن خلف الذى كان أبوه يعذب بلالا-، وتتالت كلمات محمد -صلى الله عليه وسلم- تخرج من فمه الشريف فتطهر القلوب وتغسل عنها أدرانها، وتجلو الأبصار وتنير لها طريقها: أيها الناس، اسمعوا قولى، فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدًا، إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، فى شهركم هذا، فى بلدكم هذا، ألا كل شىء من أمر الجاهلية تحت قدمى موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبدالمطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله فى النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، أيها الناس، إنه لا نبى بعدى، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم، وتحجون بيت ربكم، وأطيعوا أولات أمركم، تدخلوا جنة ربكم، وأنتم تسألون عنى فما أنتم قائلون؟ فارتجت جنبات الوادى بقول المسلمين: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبابته إلى السماء قائلاً: اللهم فاشهد، يرددها ثلاث مرات. ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم نزل عليه قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتى، ورضيت لكم الإسلام دينًا). وهكذا تمت الرسالة التى أداها محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى المسلمين كاملة تامة، وآن للأمة بأسرها، ولكل مسلم بها أن يحملها كاملة غير منقوصة، وانهمرت الدموع من عينى عمر بن الخطاب فقيل له: ما يبكيك؟ فأجاب: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان! فرحم الله عمر، ما أثقب فهمه، وأبعد نظره!. آخر البعوث: عاد خاتم أولى العزم من الرسل إلى المدينة؛ ليواجه مشكلة جديدة، فالروم وكنيستها لا يعجبها دخول العرب المتاخمين لحدودها فى دين الله الحنيف، وقد قرروا قتل كل عربى يدخل فى الإسلام، وما كان للنبى -صلى الله عليه وسلم- أن يدع الناس تظن أن الإسلام يجر عليهم الحتوف، وأن الحق صار لا قوة له، فأخذ -صلى الله عليه وسلم- يجهز جيشًا كبيرًا فى صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة وأمر عليه أسامة بن زيد بن حارثة وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والدارون من أرض فلسطين لإرهاب الروم، وإعادة الثقة إلى العرب الضاربين على الحدود، ولكن أزمة عارضة بدأ النبى -صلى الله عليه وسلم- يسمع خطوات مقدمها، ولم تكن هذه المرة من خارج الحدود بل من داخل المدينة، فقد ظهرت فى الأفق بوادر معارضة من المسلمين لإمارة أسامة، واحتوى النبى -صلى الله عليه وسلم- هذه الأزمة فانتظم الجيش، ونزل بالجرف على فرسخ من المدينة، إلا أن أخبار مرض النبى -صلى الله عليه وسلم- قد جعلتهم يتمهلون فى الخروج، فمكثوا حتى وفاته -صلى الله عليه وسلم- وكان خروجه فى أول خلافة أبى بكر الصديق[/size وفاته -صلى الله عليه وسلم- ما أعجب هذا القلم، حين يتردد الآن عن كتابة وفاة النبى -صلى الله عليه وسلم-. ألم يكن يعلم منذ اللحظة الأولى، التى بدأ فيها سرد حياته أنه مات؟! أم غاضب هو من هذا الموت الذى ظل وسيلتنا الوحيدة للقيا الحبيب -صلى الله عليه وسلم- ؟! لكن لعلها الذكرى تتجدد، فتهيج بريحها العاصف أشواق اللقاء، وهو أمر لا حيلة لنا معه! إلا أن نذكر أن كلماته باقية حولنا، وسننه ووصاياه وهديه بين أيدينا، ثم وعده بوصال لا ينقطع، فى جنة عرضها السماوات والأرض، بادٍ أمام أعيننا. شعر محمد -صلى الله عليه وسلم- بدنو أجله، ولم يمض إلا قليل حتى داهمه المرض. فانتقل -صلى الله عليه وسلم- إلى دار عائشة، ولم يشغله مرضه عن المسلمين، فأخذ يمهد لهم الأمر، حتى يتهيئوا لوفاته، ولا ينزعجوا لفراقه. وفى هذه الساعات العصيبة، لم ينس أيضًا -صلى الله عليه وسلم أن يودع عقول المسلمين وأفئدتهم وصاياه الأخيرة. واشتد المرض عليه -صلى الله عليه وسلم- حتى أقعده، فأمر أبا بكر أن يصلى بالناس، وتخلص من آخر متاعه بالدنيا قبل يومه الأخير بليلة واحدة، وهو اليوم الذى لم يرتفع فيه أذان الظهر، إلا والمصطفى -صلى الله عليه وسلم- مُسَجَّىً فى فراشه قد أصابه الاحتضار. وتسرب النبأ الأليم، فجزع الصحابة، وحزنوا حزنًا أضاق عليهم أفق المدينة، وأظلم عليهم نورها، وهم ما بين مسلم بالخبر ومحتسب، ومنزعج للحدث غير مصدق، كان موقف أبى بكر وعمر -رضى الله عنهما-، والذى تجاوزاه لينشغلا، بما يعتقدانه مراد محمد -صلى الله عليه وسلم- فى اجتماع كلمة المسلمين وأمرهم، فكان اختيار أبى بكر لخلافة المسلمين، وهو العمل الذى سبق تجهيز النبى -صلى الله عليه وسلم- وتوديع جسده الشريف. وبموته -صلى الله عليه وسلم- انقطع الوحى والنبوة عن الأرض، لكن بقى سراجهما منيرًا للعالمين، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. بداية المرض: بينما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عائدًا فى طريقه من جنازة شهدها بالبقيع، فى اليوم التاسع والعشرين من شهر صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة إذ بصداع أليم يأخذ رأسه، وقد اتقدت حرارته، حتى إنها كانت تحس من فوق العصابة، التى تعصب بها رأسه. لكنه -صلى الله عليه وسلم- تحامل على نفسه وصلى بالناس مريضًا أحد عشر يومًا، حتى أقعده المرض عن ذلك. فى دار عائشة: جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأل أزواجه: أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟، ففهمن مراده، وعلمن أنه -وهو النبى العظيم- يستأذنهن، فأذنَّ له أن يكون حيث يشاء فالمرض قد ثقل به، ولن يستطيع أن ينتقل وهو بحاله تلك بين دور نسائه، وإلى دار عائشة بنت أبى بكر الحبيبة بنت الحبيب كان المسير. يمشى -صلى الله عليه وسلم- بين الفضل بن عباس وعلى بن أبى طالب، عاصبًا رأسه، تخط قدماه، حتى دخل بيتها، فقضى به أسبوعه الأخير، وهى -رضى الله عنها- تقرأ بالمعوذات والأدعية التى حفظتها عنه، ثم تنفث على نفسه، وتمسحه بيده رجاء البركة. تمهيده الأمر للمسلمين: بعد أن قال النبى -صلى الله عليه وسلم- فى حجة الوداع: إنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدًا؟، وبعد أن أعاد قوله عليهم عند جمرة العقبة حين قال: خذوا عنى مناسككم، فلعلى لا أحج بعد عامى هذا. خرج -صلى الله عليه وسلم- فى أوائل صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة إلى أحد، حيث مثوى شهداء المسلمين، الذين قدموا كل شىء، ثم ماتوا دون أن تنعم أعينهم بفرحة الفتح أو لمحة النصر، وقف -صلى الله عليه وسلم- أمامهم مصليًا، ثم انصرف إلى منبره فقال: إنى فرطكم، وإنى شهيد عليكم، وإنى والله لأنظر إلى حوضى الآن، وإنى أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإنى والله ما أخاف أن تشركوا بعدى، ولكنى أخاف عليكم أن تنافسوا فيها. ثم خرج -صلى الله عليه وسلم- فى إحدى ليالى صفر إلى البقيع، مخاطبًا أهله بقوله: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه، مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى. ثم بشرهم قائلاً: إنا بكم للاحقون. أما قبل وفاته -صلى الله عليه وسلم- بخمسة أيام، فإنه قد صعد المنبر، وخطب فى المسلمين يوصيهم، ثم أردف قائلاً: إن عبدًا خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده. وهنا لم يتمالك أبو بكر نفسه، فانفجر باكيًا، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، وتعجب الناس من بكاء الصديق، الذى أدرك ببصيرته، أنه -صلى الله عليه وسلم- هو المخير، وأنه اختار اللحوق بالرفيق الأعلى. وصاياه الأخيرة: قبل وفاته -صلى الله عليه وسلم- بخمسة أيام، اتقدت حرارة العلة ببدنه، واشتد به الوجع حتى غمى، فقال: هريقوا علىّ سبع قرب من آبار شتى، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم. فأقعدوه فى مخضب، وصبوا عليه الماء، حتى طفق يقول: حسبكم، حسبكم. وشعر بخفة، فخرج إلى الناس، معصوب الرأس وجلس على المنبر، وعيون المسلمين معلقة به، وأجسادهم كأنما تسمرت فى أماكنها، ينصتون إلى ما يقوله محمد -صلى الله عليه وسلم- فى آخر وصاياه، وتتابعت تلك الوصايا وتلاحقت: لا تتخذوا قبرى بعدى وثنًا يعبد، من كنت جلدت له ظهرًا، فهذا ظهرى فليستقد منه. أهذا ما تخشاه يا محمد -صلى الله عليك- قبل أن ترحل عن الدنيا؟ أن تكون ظلمت أحدًاً من الناس، وأنت من حمل إليهم الخير كله، وتحمل فى سبيل ذلك من العذاب ألوانًا!. ونزل صلى الله عليه وسلم- فصلى الظهر، ثم رجع إلى منبره، وطالعت عيناه وجوه الأنصار، الذين ابتاعوا بدنياهم رجلاً فقيرا مطرودًا من بلده، يسعى فى إثره أشاوس قومه وطغاتهم لثقتهم أنه نبى الله، فقال: إن الناس يكثرون وتقل الأنصار، حتى يكونوا كالملح فى الطعام، فمن ولى منكم أمرًا، يضر فيه أحدا أو ينفعه، فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، وأعلمهم أنه اختار ما عند الله على زهرة الدنيا، ثم أوصى بالصديق فقال: إن آمن الناس على فى صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً غير ربى لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لايبقين فى المسجد باب إلا سد، إلا باب أبى بكر، وفى اليوم التالى أوصى-صلى الله عليه وسلم- بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأوصى بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم، وأراد أن يكتب للمسلمين كتابًا لا يضلوا بعده، لكن عمر قال: قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبكم كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فلما أكثروا اللغط قال لهم -صلى الله عليه وسلم-: قوموا عنى. التخلص من آخر المتاع: بقى من الزمن يوم واحد، ويغادر محمد -صلى الله عليه وسلم- دنيا الناس إلى جنات ربه، وأدارالرسول -صلى الله عليه وسلم- بصره فى حجرته البسيطة، فوقعت عيناه على متاعه من الدنيا، ممتلكات نبى آخر الزمان، من بلغت حدود دولته بلاد الفرس والروم، ودانت له جزيرة العرب بأطرافها، فماذا وجد؟، غلمانًا كان أحن عليهم من والد، وسبعة دنانير، وعدة حربه من السلاح، فأعتق الغلمان، وتصدق بالدنانير، ووهب سلاحه للمسلمين. وفى الليل استعارت عائشة الزيت للمصباح من جارتها، وكانت درعه مرهونة عند يهودى بثلاثين صاعًا من الشعير. اليوم الأخير: بينا المسلمون صفوف خلف أبى بكر، يصلون فجر الإثنين الثانى عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، إذ بستر حجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرفع، وإذ بوجهه المنير ينظر إليهم متبسمًا، وفرح المسلمون بما رأوا، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم أرخى الستر على حجرته، ولم يدروا حينئذ أنها المرة الأخيرة، التى يرون فيها وجهه الكريم -صلى الله عليه وسلم-. فحين ارتفع الضحى، دعا محمد -صلى الله عليه وسلم- فاطمة ابنته، ثم سارّها بشىء فبكت، فدعاها وسارّها بشىء آخر فضحكت!، أما ما بكت لأجله، فكان إخباره إياها أنه يقبض فى وجعه الذى توفى فيه، وأما ما ضحكت منه، فكان بشارته لها أنها أول من يتبعه من أهله، وغشيه -صلى الله عليه وسلم- كرب شديد مما يجد، فقالت فاطمة متأوهة: واكرب أباه، فأجابها: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيرًا، ثم دعا أزواجه فوعظهن وذكرهن، وأخذ الوجع يشتد ويزيد عليه فقال لعائشة: ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم، وكانت آخر وصاياه، التى أخذ يرددها مرارًا الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم
الاحتضار: حين اشتد الضحى من يوم الإثنين الثانى عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، كان عبدالرحمن بن أبى بكر، يدلف إلى حجرة عائشة وفى يده سواك له، فنظر إلى سواكه محمد -صلى الله عليه وسلم- الذى كانت رأسه الشريفة مستندة إلى صدر عائشة، وعرفت أنه يريده فأخذته ولينته واستاك به -صلى الله عليه وسلم-، ثم صار يضع يده فى إناء به ماء، فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، ثم شخص بصره نحو السقف، ورفع إصبعه، وتمتم قائلاً: مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لى وارحمنى وألحقنى بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، ثم مالت يده، وصعدت روحه الطاهرة إلى بارئها عز وجل. حزن الصحابة: يا أبتاه، أجاب ربًا دعاه. يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه. يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه. خرجت هذه الكلمات الحارة من صدر فاطمة بنت محمد، لتتسلل إلى أسماع صحابة محمد -صلى الله عليه وسلم- فتعتصر قلوبهم ألمًا، مات الحبيب، الذى عرفوا الحق على يديه، ألفوا سماع حديثه، ورؤياه ماشيًا تارة ومتبسمًا أخرى، ومفكرًا أو مجاهدًا مرات سواها، تعودوا رؤية سيد الخلق، مثال السمو البشرى، من وسع صدره همومهم، وقلبه حبهم، من ملأ دنياهم، وأنار آخرتهم، حين ترك فيهم ما لا يضلوا بعده أبدًا كتاب الله وسنته -صلى الله عليه وسلم-، حزن الصحابة حزنًا، أظلم على المدينة دروبها التى شهدت مسيره، ولعلها الآن حين تحتضن جثمانه فى صعيدها الطيب الطاهر، تجد العزاء. أما صحابته -صلى الله عليه وسلم- فإن عزاءهم وعزاء أتباعه -صلى الله عليه وسلم- فى متابعة طريق شقه فى الدنيا، جزاء السائر فيه، لقيا حبيبه فى الجنة. موقفا أبى بكر وعمر من الوفاة: خفق قلب أبى بكر حين وصله النبأ الحزين، وساءل نفسه: هل انتهت رحلتى الطويلة مع نبيى محمد؟، وخرج أبو بكر من بيته، ثم وضع جسده المتعب فوق ظهر فرسه، وغدا إلى المسجد لا يدرى، أينهز فرسه فيفجع برؤيا حبيبه وقد فارقته الحياة؟، أم يكفها فيبقى بعيدًا عن روح قلبه ومفتداه؟! واستسلم أبو بكر لمسير فرسه، تحمله إلى حيث يلقاه، فلما انتهت إلى المسجد، نزل عنها ولم يكلم أحدًا، حتى دخل على عائشة ابنته، فقصد بخطوات لا تقوى على حمله إلى فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونظر إليه بعينين حانيتين وهو يراه مسجىً لأول مرة، وامتدت يداه لأطراف الثوب، فالتقطها بأنامله، وكشف عن أحب الوجوه إليه، فلما رآه، لم يتمالك نفسه، فأكب عليه، يقبله ويبكى بكاءً حارًا متصلاً، لعله ينفث عن جمرات اتقدت فى صدره الحزين، وتمتم يقول ودموعه قد غطت وجهه: بأبى أنت وأمى، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التى كتبت عليك فقد متها.، إنها الحقيقة التى علمه محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يواجهها ويعاملها، وإنه القدر الذى تعلم من نبيه كيف يستسلم له، وخرج أبو بكر من بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد نفض عن وجهه ملامح الجزع، وأبرقت عيناه ثقة وحزمًا. وها هو عمر بن الخطاب، يرفض قلبه الدافق بحب محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يستسلم لهذا الخبر، فوقف صائحًا: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله توفى، وإن رسول الله ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، ووالله، ليرجعن رسول الله فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات. وأراد أبو بكر أن يجلس عمر فأبى، لكن الناس أقبلوا على الصديق يستمعون، فقال لهم: أما بعد، من كان منكم يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حى لا يموت، قال الله: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزى الله الشاكرين). وهنا استقر أمر المسلمين، لكنْ هوى عمر إلى الأرض، وعلم أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قد مات. اختيار أبى بكر لخلافة المسلمين: اجتمع كثير من المسلمين فى سقيفة بنى ساعدة، وجرى بينهم خلاف فى أمر الخلافة، وتبادل القوم النقاش والجدال بين المهاجرين والأنصار، وأصبح لزامًا على الصحابيين الكبيرين، أبى بكر وعمر أن يدركا المسلمين فى سقيفتهم، ودخل أبو بكر فأبدى رأيه فى تقديم قريش على من سواها حفاظًا على وحدة العرب، ثم رفع يدى عمر وأبى عبيدة ليختار المسلمون بينهما، لكن المسلمين ظلوا يتجادلون دون حسم لأمرهم أو اختيارهم، وهنا بادر عمر القوم، فسأل أبا بكر أن يبسط يده، فبسطها، فبايعه عمر، فتزاحم المسلمون على أبى بكر يبايعونه وقد مضى فى ذلك بقية يوم الإثنين حتى دخل الليل وشغل الناس عن جهاز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى اليوم الثانى. التجهيز وتوديع الجسد الشريف: آن للجسد الذى حرك صاحبه الدنيا بأسرها، فأسقط عروش الظلم والجاهلية بها، وأنار جوانبها، وترك فيها حركة قوية من دين متجدد إلى يوم الساعة- آن لهذا الجسد أن يسكن ويستريح، وآن له أن يعود إلى منشئه، التراب!. أقبل العباس وابناه الفضل وقثم يقلبان جسده -صلى الله عليه وسلم- ويصب الماء عليه دون أن يجرده من ثيابه أسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وكان الذى يغسله على بن أبى طالب. وأسنده أوس بن خولى إلى صدره، وانتهى الغسل فكفنوه -صلى الله عليه وسلم- فى ثلاثة أثواب بيض، ثم حفروا تحت فراشه لحدًا، ليكون له -صلى الله عليه وسلم- قبرًا، ودخل الناس أرسالاً عشرة فعشرة، يصلون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يؤمهم أحد، وصلى عليه أولاً أهل عشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار. وصلت عليه النساء بعد الرجال، ثم صلى عليه الصبيان، ومضى فى ذلك يوم الثلاثاء كاملاً، حتى دخلت ليلة الأربعاء، وما انتهى الصحابة من دفنه -صلى الله عليه وسلم- إلا فى جوف ليلة الأربعاءبيت النبى -صلى الله عليه وسلم-: لا تلحظ عين السائر فى طرقات المدينة فارقـًا يميز بيت النبى صلى الله عليه وسلم- عن سواه من بيوت المسلمين، اللهم إلا كونه حجرات قد بنيت بجوار المسجد، أما عمارتها فكانت من حجر اللبن، وقد سقفت بالجريد والجذوع. دخل عمر بيته -صلى الله عليه وسلم- ذات مرة، فرفع رأسه بالبيت ثم قال: فوالله ما رأيت فيه شيئـًا يرد البصر إلا أهبة جلودًا ثلاث، ثم قال للنبى -صلى الله عليه وسلم: ادع يا رسول الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله. فأجابه: أفى شك أنت يابن الخطاب؟!، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم فى الحياة الدنيا. وتروى عائشة: كنا لننظر إلى الهلال ثلاث أهلة فى شهرين، وما أوقدت فى بيوت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نار، إذ كانوا يعيشون على التمر والماء. وعلى بساطة هذا البيت وشظف العيش به، إلا أن حياة محمد -صلى الله عليه وسلم-فيه بين أزواجه -رضى الله عنهن- وأبنائه، قد أشاعت به جوَّا من السرور والهناء، وكان -صلى الله عليه وسلم- فى خدمة أهل بيته، وهو القائل: خدمتك زوجتك صدقة، كما كان أرحم الناس بالأطفال، ولعل خلقه فى بيته -صلى الله عليه وسلم- يرسم بجمال صفاته صورة طيبة بما كان عليه الحال فى هذا البيت. صفاته -صلى الله عليه وسلم-: نظر جابر بن سمرة إلى النبى -صلى الله عليه وسلم- فى ليلة مقمرة، فجعل يردد بصره بينه وبين القمر، ثم قال: فإذا هو أحسن فى عينى من القمر. وقد كان -صلى الله عليه وسلم- مستدير الوجه، أبيض البشرة، له شعر أسود يبلغ شحمة أذنيه، طويل شعر الأجفان، واسع العينين أكحلهما، أقنى الأنف، واسع الجبين، سهل الخدين، بين أسنانه تباعد، وفى لحيته كثافة، ليس بطويل القامة ولا قصيرها، عريض الكتفين والصدر، طويل الزند، رحب الراحة، لين الكف، له شعر دقيق كأنه القضيب، من صدره إلى سرته، ليس بالنحيف ولا السمين، إذا التفت التفت معًا، وإذا مشى أسرع كأن الأرض تطوى له دون أن يكترث، إذا سر استنار وجهه حتى كأنه القمر، وإذا غضب احمر وجهه، ونفر فى جبينه عرق، كما تقول أم معبد: أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأحلاهم من قريب. وهو مع حسن شكله قد تم له حسن الخلق أيضًا، ويكفيه فى ذلك مدح ربه تعالى له. فكان -صلى الله عليه وسلم- فصيح اللسان، بليغ القول، حليمًا كثير الاحتمال، يعفوعند المقدرة، ويصبر على المكاره، أجود الناس وأكرمهم، وأشجع الفرسان وأثبتهم، أشد حياءً من العذراء فى خدرها، خافض الطرف، نظره إلى الأرض، أطول منه إلى السماء، أعدل الخلق وأعفهم، وأصدقهم لهجة، وأعظمهم
موضوع: رد: سلسلة سيرة المصطفى علية الصلاة والسلام الأربعاء 11 أغسطس - 8:36:35
تابع
وأعظمهم أمانة، كثير التواضع بعيدًا عن التكبر، يعود المساكين، ويجالس الفقراء، ويجيب دعوة العبد، ويجلس فى أصحابه كأحدهم، ثم هو أوفى الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأكثرهم شفقة ورحمة، ليس بالفاحش ولا المتفحش ولا اللعان ولا الصخاب فى الأسواق، دائم الفكرة، طويل السكوت، يؤلف أصحابه ولا يفرقهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوى عن أحد منهم بشره، ولا يميز نفسه بمجلس على غيره، دائم البشر، سهل الخلق لين الجانب، ولو استفضنا فى ذكر محاسن شمائله، لذهبت دون ذلك الأعمار، ونفدت السطور والأقلام -صلى الله عليه وسلم-.
معجزاته -صلى الله عليه وسلم- "والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمنير أعلاه مشرق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته". كانت تلك شهادة أعدى أعداء النبى -صلى الله عليه وسلم- الوليد بن المغيرة، فى قرآن رب العالمين، الذى تحدى به البشر من العرب وغيرهم أن يأتوا بمثله، فعجزوا أن يفعلوا مع شدة رغبتهم فى دفعه وإنهائه، الكتاب الباقى الذى تدور الأيام فلا يفنى، وتمر السنون فلا يبلى هدى ونور للمؤمنين به، وشفاء ورحمة للساعين به، وسوى القرآن الكريم -المعجزة الباقية إلى قيام الساعة. أيد الله -عز وجل- نبيه بالعديد من المعجزات، منها: تفجر الماء على يديه الشريفتين، وحنين الجذع الذى كان يخطب عليه بعد أن تحول عنه إلى منبر صنع له، ونزول المطر لدعائه، وقدوم الشجرة إليه لندائه، وانشقاق القمر أمام أعين المعاندين من قريش، وما تكررعلى يديه -صلى الله عليه وسلم- من شفاء للكسور والجراح التى ألمت بصحابته، ثم معجزة الإسراء والمعراج، والتى ساق الله على لسان نبيه دلائل صدقها، وكذلك عشرات ومئات الحوادث التى تؤكد إجابة دعوته، وأخيرًا ما حدث يوم الخندق، وغيره من بركة فى الطعام اليسير، حتى إنه ليكفى الخلق الكثير. وبعد، فلقد امتاز محمد -صلى الله عليه وسلم- وامتازت رسالته بدوام المعجزة وبقائها، وذلك بحفظ الله لكتابه الكريم حتى يبقى حجة على البشر أجمعين، إلى قيام الساعة.
محمد الشاعر عضو فعال
تاريخ التسجيل : 03/07/2010عدد المساهمات : 273نقاط : 26598 التقيم : 0الدوله : صوره للوسمهتاريخ الميلاد : 01/10/1991العمر : 33
موضوع: رد: سلسلة سيرة المصطفى علية الصلاة والسلام الأربعاء 11 أغسطس - 13:47:01