صيته يسبق اسمه؛ لأن هذا الصيت اقترن بكلام الله عز وجل.. تربّينا كبارً وصغاراً على تفسير الشيخ الشعراوي أو ما أحب أن يطلق عليه هو "الخواطر القرآنية"، مخافة أن يكون فيه جرأة على التفسير ومقارعة علمائه، في الوقت الذي يعدّ نفسه أقل من هذا قدراً؛ وإن كانت منزلته وعلمه تضعه شامخاً بينهم.
الشيخ الشعراوي أشهر من أن نكتب كلمات بتعريفه، وعلمه بالقرآن وبالدين أوضح من أن يوضّح؛ ولذلك فإننا نتناول نبذات بسيطة عن مواقفه مع السلطة وذوي النفوذ، مواقف قد شهدها البعض وخفيت على الكثير، مواقف لا تدع بعد كلمة الحق كلمة، ولا في النفس أرفع من عزة بالإسلام وللإسلام.
مشوار حافل ولد فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي عام 1911 بقرية دقادوس مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية، وحفظ القرآن الكريم في الحادية عشرة من عمره.
ثم التحق بمعهد الزقازيق الابتدائي الأزهري وحصل على الشهادة الابتدائية الأزهرية سنة 1923، ودخل المعهد الثانوي ثم تخرّج الشيخ عام 1940، وحصل على العالمية مع إجازة التدريس عام 1943.
عمل بعدد من المعاهد الأزهرية ثم سافر إلى السعودية عام 1950 ليعمل أستاذاً للشريعة بجامعة أم القرى.
وفي عام 1963 حدث الخلاف بين الرئيس جمال عبد الناصر وبين الملك سعود. وعلى إثر ذلك منع الرئيس عبد الناصر الشيخ الشعراوي من العودة ثانية إلى السعودية، وعُيّن في القاهرة مديراً لمكتب شيخ الأزهر الشريف (الشيخ حسن مأمون). ثم سافر بعد ذلك الشيخ الشعراوي إلى الجزائر رئيساً لبعثة الأزهر هناك ومكث بالجزائر حوالي سبع سنوات، قضاها في التدريس، وأثناء وجوده في الجزائر حدثت نكسة يونيو 1967؛ فعاد إلى القاهرة وعيّن مديراً لأوقاف محافظة الغربية فترة، ثم وكيلاً للدعوة والفكر، ثم وكيلاً للأزهر، ثم عاد ثانية إلى المملكة العربية السعودية؛ حيث قام بالتدريس في جامعة الملك عبد العزيز.
وفي نوفمبر 1976م اختاره ممدوح سالم -رئيس الوزراء آنذاك- ضمن أعضاء وزارته، وأسند إلى الشيخ الشعراوي وزارة الأوقاف وشئون الأزهر؛ فظل الشعراوي في الوزارة حتى أكتوبر عام 1978، ثم قدّم استقالته لعدم تفاهمه مع السلطة، وفي سنة 1987 اختير فضيلته عضواً بمجمع اللغة العربية (مجمع الخالدين).
يجدد للأمة دينها ويضيء لها دربها ما إن يتوهّم الناس أن نور الإسلام قد خبا حتى يبعث الله من يجدد لهذه الأمة دينها كما قال صلى الله عليه وسلم "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها".. ولذلك يقول د. أحمد عمر هاشم "إن الشعراوي أحد أبرز علماء الأمة الذين جدد الله تعالى دينه على يديهم كما قال الرسول الكريم".
ترك الشيخ الشعراوي بصمة طيبة على جبين الحياة الاقتصادية في مصر؛ فهو أول من أصدر قراراً وزارياً بإنشاء أول بنك إسلامي في مصر وهو "بنك فيصل"؛ في الفترة التي فوّضه فيها وزير الاقتصاد -د. حامد السايح في هذه الفترة- للقيام بمهامه، ووافقه مجلس الشعب على ذلك.
وقد ضرب الشيخ بذلك، النظام المتعارف عليه اقتصادياً في مصر وقتها؛ لأن البنوك لا تسير وفق النهج الإسلامي ، وقال الشيخ كلمته "إنني راعيت وجه الله فيه ولم أجعل في بالي أحداً؛ لأنني علمت بحكم تجاربي في الحياة أن أي موضوع يفشل فيه الإنسان أو تفشل فيه الجماعة هو الموضوع الذي يدخل هوى الشخص أو أهواء الجماعات فيه. أما إذا كانوا جميعاً صادرين عن هوى الحق وعن مراده، فلا يمكن أبداً أن يُهزموا، وحين تدخل أهواء الناس أو الأشخاص، على غير مراد الله، تتخلى يد الله عنهم".
ولذلك تعرّض الشيخ لمؤامرة من بعض ذوي النفوس الضعيفة لإقصائه عن منصب شيخ الأزهر بعد أن أفهموا السادات أن الشعراوي قد رفض المنصب، ولم ينتبه السادات إلا بعد أن عاتبه عثمان أحمد عثمان، وتبيّن أن من حوله خافوا من تولي الشعراوي مشيخة الأزهر لجرأته وقوته في الحق.
أقام الحق في نفسه فاستقام على رقاب غيره من مواقفه التي لا تُنسى ما حكاه الدكتور محمود جامع عندما وقف الرئيس السادات بمجلس الشعب وسبّ الشيخ المحلاوي؛ فأرسل الشعراوي برقية عاجلة للرئيس السادات قال فيها: "إن الأزهر الشريف لا يُخرج كلاباً؛ وإنما يخرج شيوخاً أفاضل وعلماء أجلاء".
ومن مواقفه التي تُعدّ، موقفه الذي حكاه أحد علماء الأزهر قائلاً: عندما قدم الرئيس الروماني نيكولاي تشاوشيسكو إلى القاهرة، طلب السادات من الشيخ الشعراوي اصطحابهم إلى دار الأوبرا لتحية الرئيس الضيف، وما إن بدأ العرض ورأى الشيخ الرقصات والموسيقى المصاحبة؛ حتى ضرب الأرض بقدمه ومال وجلس واضعاً قدماً على الأخرى؛ فأرسل إليه السادات ممدوح سالم -رئيس الوزراء وقتها- وقال له: الرئيس يطلب منك أن تعتدل في جلستك؛ فصاح الشيخ "اعتدلوا أنتم أولاً".
توفي رحمه الله في يوم الجمعة 17 من أبريل عام 1998.. رحم الله الشيخ وجزاه عنا خير الجزاء، بما أورثنا من علم وقوة حق ونور في القلب.