مصيبة الموت
بقلم ـ عادل الحلبي :
الموت تلك الكلمة المرعبة التي تقشعر لهولها الأبدان ، كلمة مكونة من ثلاثة أحرفٍ موت ، ثلاثة أحرفٍ تثير الرعب في قلوب عباد الله ، الموت ما ذكر عند جليلٍ إلا وحقره ، وما قورن بعظيمٍ إلا وأذله ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور ) الموت : ذلك المخلوق المرعب الذي ترتعد الفرائص عند ذكره ، مخيف ، غامض ، مرعب ، كريه بغيض للنفس الإنسانية بل وحتى للبهائم ، إذا شعر الفيل بدنو أجله فإنه يهجر القطيع إلى مكانٍ بعيدٍ ليلقى حتفه هناك ، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأسد وبعض الحيوانات الأخرى ، وإذا وقع الحيوان في فخ حيوانٍ آخر فإنك ترى في عينيه الرعب والجحوظ والخوف من الموت .
والموت حق على جميع المخلوقات من إنسٍ وجنٍ وملائكة وسائر المخلوقات الأخرى ، ومهما طال الزمن أو قصر فلا بد لنا من ولوج بوابة الموت ، والموت يا سادة يا كرام مصيبة وأي مصيبة ، سماه الله مصيبة قال تعالى ( فأصابتكم مصيبة الموت ) الموت لا يعرفك ولا يجاملك ، يأتيك دونما إنذارٍ في بعض الأوقات ، حادث أو طعنة ، طلقة أو نوبة قلبية ، صعقة كهربائية أو انهيار في وظائف القلب بصورةٍ مفاجئةٍ ، وفي بعض الأحيان قد ينذرك أو تنذرك علاماته ( المرض ، الشيب ، الحرب ) إلخ
الموت يهجم فجأةً كلصٍ غادر، لكنه هجم عليك بقدر من الله ، لا يحتاج الموت إلى واسطة أحدٍ من المخلوقين كما لا يحتاج إلى استئذانٍ منك ، ربما بعد قراءتك لهذا المقال سوف تموت ، وربما بعد أن تغلق جهاز الحاسوب سوف تموت ، ربما تموت بعد غدٍ أو في الغد ، أو بعد شهرٍ .. لا تعرف تاريخ نهايتك ولا وقتها أو مكانها ولا يعلم أحد إلا الله سبحانه وتعالى ( وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرضٍ تموت )
ذات يومٍِ كنت في إحدى البقالات أشتري أغراضاً لمنزلي ، كان بجواري رجل يتحدث في الهاتف ويعلم أصحابه أن أمه قد توفاها الله سبحانه وتعالى ، كأنه يطلب العزاء لنفسه منهم ، وكأنى أرى انفعالاته من وراء ظهره ، كان يقطع الخط الهاتفي ليهاتف شخصاً آخر وهكذا ، حتى فرغ من تلك المحادثات ، سلمت عليه وسألته عن أمه فأعلمني أنها قد توفيت إلى رحمة الله سبحانه وتعالي ، عزيته وصبرته وطلبت منه الدعاء لها ، خرج الرجل من البقالة وانطلق في حال سبيله وأنا أشيعه بنظراتي الحزينة ، رأيته يرفع يده اليمنى ويمسح دمعةً نزت من إحدى مقلتيه حتف أنفه ، ثم أخذ الظلام يبتلعه شيئاً فشيئاً والعربات تمر بجانبه ولا تعيره انتباهها ، لم يكن أحداً يعلم أو يشعر أن هذا الرجل الذي يمشي على قدميه قد توفيت والدته للتو واللحظة ، ما أقساك أيتها الحياة .
تذكرت قصةً للأديب الروسي ( أنطوان تشيكوف ) عن أبٍ فقد ولده الشاب بسبب مرضٍ لم يمهله طويلاً ، كان الأب يعمل حوذياً يقود عربته القديمة بحصانه العجوز في صقيع روسيا القارس ، وكان الأب المكلوم إذا ركب معه أي راكبٍ فإنه كان يبث إليه حزنه ولوعته على ابنه الشاب الذي كان يعول عليه كثيراً ، وكان الكثير من الركاب يبدي تبرمه وعدم مبالاته لهذه القصة المأساوية ، ما أحوجنا إلى المعاني الإنسانية .
ومثل هذه الغفلة واللامبالاةٍ تحدث لنا عندما نشيع رجلاً ما إلى قبره ، أو إلى أول منزلٍ من منازل الآخرة القبر ، نكون حينها في تأثرٍ بالغ وحزنٍ عظيم ، وما إن نخرج من رحم المقبرة إلى صخب الحياة ولججها حتى يكتنفنا النسيان أو ما يعرف ( بالران ) الغفلة ، نترك الميت لمصيره المحتوم ( الحساب )تماماً مثل ما أخبر سيدنا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف ( إذا مات الميت تبعه ثلاثة أهله وماله وعمله فيرجع اثنان ويبقى واحد يرجع أهله وماله ويبقى عمله ) .
حدثني رجلان من عائلةٍ واحدةٍ ، قالا لي : توفي أحد أقاربنا وهو رجل كبير في السن ، فذهبنا إلى المقبرة لتشييعه ، وعندما هممنا بوضعه في القبر ، اعترض أحد الأقارب قائلاً إن هذا القبر لا يتناسب مع حجم الجثمان ، وأشار إلى قبرٍ آخر بجواره قائلاً ضعوه هنا ، تم دفن ذلك الرجل في ذلك القبر ، وبعد أن انفض مجلس العزاء ، كان المتحدث في المقبرة يقود سيارته في الطريق ما بين مدينة الرياض والعمارية وقدر الله عليه أن يموت تلك الليلة في حادث سيارة ، وفي اليوم التالي شيع إلى المقبرة ، وقام أقاربه بدفنه في تلك الحفرة التي اعترض عليها عندما أرادوا دفن جثمان صاحبهم الأول ، كأن لسان حاله يقول من حيث لا يدري ( هذه حفرتي التي سأدفن فيها )
كم من إنسانٍ نسجت أكفانه من حيث لا يدري ، القصص على هذه الشاكلة كثيرة جداً ، لكنني تحققت من وقوعها فنقلتها لكم ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) .
[center]